رواية مكتبة منتصف الليل لمات هيغ نموذجاً

حازت الرواية على جائزة قودريدز  سنة 2020..كما أن نسختها العربية تبرهن مدى انتشارها عالميا.

الفكرة في حد ذاتها ليست جديدة، فقد سبقتها رواية الأمريكيةGaile Forman والتي ترجمت إلى الفرنسية ("Si je reste")
وحبكتها أكثر متانة وإقناعا، وإن لم تخض في مسائل شتى مثلما هو الحال بالنسبة لرواية مكتبة منتصف الليل، تشترك الروايتان في التساؤل حول الفترة الزمنية بين الحياة والموت، وذاك التجاذب بينهما لتفضيل الشخصيتين ضفة دون أخرى، وفي الحالتين تم اختيار الاستمرار في الحياة، إحداهما عاشت التجربة بعد قرار انتحار بشرب أقراص دواء الاكتئاب والثانية نتيجة حادث انقلاب سيارة وموت الأب والأم ولم تنج سوى الشخصية الرئيسية.. تبقى هذه الحبكة أشد انسجاما مع المنطق لأنها تذرعت بغيبوبة الشخصية، وأقنعت بالأفكار التي صاغتها، أما في مكتبة منتصف الليل، يكشف الكاتب في ختامها، أن ما عاشته الشخصية نورا لا يتجاوز وقتا محدودا للغاية، فقد شربت الدواء ثم خبرت تجارب عديدة لتتقيأ وتهرع مسرعة إلى الجار العجوز ليطلب لها سيارة إسعاف..وذاك ليس منطقيا خاصة وأن الظاهرة العلمية الذي تحدث عنها قابلة للتجسد ولها ضوابطها التي وجب احترام شروطها للخوض فيها.

حافظ الكاتب على نفس المقومات لإنتاج فيلم يشد مشاهده ويتعاطف مع بطلته وبين فينة وأخرى تتفوه بمقولة فلسفية أو تختمر القريحة فتنتج جملة لافتة، دون أن يغفل عن التشويق وتقسيم النص إلى وحدات غير طويلة وكأنه يوزع النص حسب المشاهد، وكل ذلك مقبول، فالقارئ يحتاج أن يروح عن نفسه بقراءات شبيهة غير ثقيلة بالثرثرة اللغوية وتمنحه صورة سلسة، كما لا يمكن إنكار التمكن السردي،  لغياب استعراض العضلات المعرفية، وإن تم  التحدث عن فلاسفة مع إيراد مصطلحات ما زالت مثيرة للأسئلة، تاركا لمن يطلع حرية اكتشاف ما يتحدث عنه، ولم يتدخل المترجم لفعل ذلك للبرهنة على اجتهاد غير محمود.
لكن لم يستغل الكاتب الإمكانيات الكبيرة التي فتحتها هذه المصطلحات للفكرة ومنها "قطة شودنغير" و"الأكوان المتوازية وفيزياء الكم" و"الدالة الموجية"...كم ضيع على الرواية احتمالات تجعلها شاهقة حقا ورضي لها نهاية عادية، ترجع فيها الأمور إلى نصابها وتكتشف الشخصية أن عليها الرضى بحياتها فهي الأفضل طالما أنها عرفت مصير أحلامها التي لم تتحقق وماذا لو تمكنت من بلوغها...ودائما تجابه بنتيجة سلبية.

لا يخفى أن الرواية منجذبة إلى ما يعرف بالتنمية البشرية، وذاك أمر حسن لو جعلها صاحبها تمضي في هذه التنمية بمعناها العلمي وليس بمفهومه السطحي، لا يكفي أن يصرخ الإنسان قائلا مكررا مثلا :"أنا بخير" ، حتى يشعر بالتحسن..هذا هراء!
لا يجدي أن يغمض المرء عينيه ويتخيل أن ما يحلم به يتحقق ليشحن ذاته بالإرادة..هذا هذر!
من يريد أن يكون بخير، عليه أولا مواجهة كل الأمور التي جعلته يشعر بالسوء، عليه أن يخوض غمارها.
قبل فعل ذلك، وإن ظل يعيد صباحا وليلا أنا بخير، فلا يستحق سوى العزاء، لأن روح الميت قد تكرر أنها حية، لكن الجسد لن ينتفض..
من يريد تحقيق حلم، عليه أن يفتح عينيه أولا ويتصور ما يريده بعيدا عن الوهم..ليس خروفا كي يسرح في الخيال الذي قد يهبه نفسه عشبا، غير أنه لن يحتمل مرارته، سيلفظه ويجتر الفراغ.

في ذات سياق الفرادة، بناقش العنوان واختيار ذاك التوقيت، والمعلوم أنه تحديد لا أصالة فيه باعتباره مستمدا من قصة سندريلا وضرورة عودتها قبل منتصف الليل لأن بعدها عليها تحمل الويل،
للمبدع مساحة كاملة كي ينتج رموزه الخاصة وأن يقترحها غير أنه لا يقتنص الفرصة ويكتفي بالاتكاء على الموروث الرمزي.
وهو ما يبرر اختياره قفلة شبيهة، تجعل الأمور المتأزمة تنفرج دون منطق يشدها إلى الواقع الذي يؤكد ارتفاع حالات الانتحار اكتئابا، ولا وجود لمخلص ولا فرصة لليائس أن يراجع حياته وفرضيات أخرى، فينأى الكاتب بالرواية عن الخيال ليبوبها في الوهم ..مسكن لأرواح معذبة ترضيها حقنة مخدرة تجعل ابتسامة ساذجة تعلق على الشفتين، لتعود  هذه الأرواح بعد انتهاء المفعول المؤقت إلى الواقع الذي لا تملك له تغييرا، ولم تظفر بمفتاح في شكل فكرة قد تساعدها حقا وتجعلها ذاتا متسائلة باستفهامات تواجه الحيرة.

من يدعو إلى التشبث بالأمل في هذا السياق؟
كاتب ناجح تحقق نصوصه مبيعات عالمية كبيرة، "ما أسهل الحرب عند النظارة"، وكم من السهل توزيع النصائح النظرية ما دامت القضية لا ترتبط به..يشكك هذا في المصداقية ويجعل وقع الرواية خافتا مهما علت فيها أصوات أفكار محل جدل بين من يعتبرها منسجمة مع الحقيقة العلمية وبين من يبوبها نشازا أو لا يعترف بها ويرفض الإنصات إلى ما تبوح به.

هذه الأفكار التي لم تستثمر ولم يعمل فيها الخيال، موضوع خصب كموضوع الأكوان الموازية، جدير بنص خارق للمعهود، تذهب فيه الشخصية إلى أبعد من تجاربها العادية، من ذهاب إلى حياة ما لبعض الوقت ثم أوبة إلى المكتبة، لم تتعرض إلى أي حادث سوى مواجهة دب دون أن يلحقها منه الأذى كأن يهاجمها وتفقد ذراعا أو ساقا ثم تنجو مثلا..، لم تمت وهو شرط العودة..لكن، إنه الخيال، القادر على التجاوز، فلتمت ولتعش في كون مواز للكون الموازي وفي موجة أعلى بذرات مختلفة.
ليأتي الفصل قبل الأخير المعنون (شيء تعلمته -كتبته نكرة كانت الجميع) التي تسقط الإبداع بالقفلة القاضية، إذ ترد في شكل ملخص يتضمن عصارة تجربة الشخصية التي تغلغل إيمانها بضرورة الرضى أنها حية وذاك كاف، وهو ما أكده تكرار إيراد مقولة سارتر واعتبار ضرورة اتخاذها قانونا وجوديا ومنهجا عاما " يجب أن لا تفهم الحياة وإنما تعيشها فحسب"، وهي مقولة تستوقف ليس لبلاغتها وإنما لخلوها من المعنى المرتكز على المنطق، مع ترصيف للمواعظ بشكل مباشر وهو ما لا مبرر له، إذ لم يترك منفذا للرواية لاحتمالات يتخيلها القارئ بنفسه ليحرم من حق التأويل والتساؤل..ويكتفي بحفنة عظات..هل تقيه سم العضات؟

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم