جنحة نظيفة، أو مذكرات جسد تحت الطلب أو لنقل أنها حقل أجساد محترقة..

ربما يرغب البعض بتسميتها جنحة قابلة للطي

لا يهم.. لا يهم

أيا كان عنوانها لكنها العمل الذي سيجعلك تعلق مفاهيمك على جدار إعدام جديد له..

الرجل لا يعرف الكتابة خارج فن الوخز، وكأنه لعنه الله يكتب بالدبوس، يوقظ كل شياطينك حولك، يقسمك لألف قارئ ويشتت قواك أمام منطقين... كلاهما صحيح، في البدء ستكره ...ستحب...ستطير ستدوخ ستُصعق ستتوقف، ثم تمشي، ثم تدور... حتى تظن نفسك تركب مع سائق تكسي محتال يدور بك حول مكان ما ولا يريد إيصالك عليه...نعم أخازي لا يعطيك أي شيء قبل أن تدفع أعصابك.

رجال ما بعد منتصف الليل رواية (اجتماعية فلسفية سياسية ثقافية)، مهلا! هذا كلام فارغ... إنها صفات يصف الأكاديميون النصوص بها جهلاً به، فهذه الرواية عدائية، بينها وبين المجتمع والفلسفة والسياسية والثقافة ثأر قديم قدم تحقير المرأة وتسليع جسدها وبيعها في أسواق النخاسة مقابل جلود الغنم... إنها رواية الثأر للنساء.


طفولة في معبد الشك:


طفولةٌ جعلها الكاتب نقطة ارتكاز تقوم عليها حياة بأكملها ومنها تنطلق. متّخذاً متراس شخصية ابراهيم وهو سارد رئيسي لحيوات الشخصيات الأخرى ـ لقصف جبهة المجتمع، طفولة إبراهيم كقواعد الصواريخ بالنسبة للروائي خالد أخازي الذي يضرب من خلالها دفاعات العفة المعلبة "منتهية الصلاحية" وعقائد تباع كبضائع مهربة في الدار البيضاء ويشتري أصحابها شهوة ليلة واحدة مع امرأة تمارس الجنس برغيف خبزها اليومي كأي مهنة أخرى يعمل بها الشخص فيكرها لكنه الحياة علمته مهارتها.

خالد الذي يعرف جيدا المشي على حبل التابوه في العمل الفني يطرح رجال ما بعد منتصف الليل مع نساء لا يطلع عليهن الفجر، فيضع قيم الرجولة كلها أمام المقصلة فينشر على حبل غسيل طويل يمتد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب القيم العفنة في واقعنا العربي المشرقي.

الليبرالية والاسلامية المتطرفة والحداثيّة والإلحادية والعلمانية كلهم يساقون بعصا واحدة عندما يتعلق الأمر بالمرأة، ونظرة المجتمع لها فيناقش أصل العار ومفهوم الموت والحياة والغفران، والنكران، والرذيلة والفضيلة.

الدار البيضاء مسرح عمليات أخازي مركّزاً على قاع المجتمع في تلك المدينة المثقلة بالتنوع الوبائي وبأنواع الخطيئة والرذيلة المتعددة وكأنها ملجأ لكلّ نفس أمّارة بالسوء، ليخرج من هذا الفضاء إلى فضاء أكثر قتامةً وأشدّ اعتكافاً تحت عباءة القبليّة، وهو مجتمع الريف الضارب في صحراء الجهل والتخلف الغارق تحت كثبان الفقر والظلم الاجتماعي.

الريف المغربي خزَّان أحقاد ومفاهيم قبليّة متشددة وتخلّف وكبح للمرأة، مجتمع الرذيلة في الدار البيضاء، مجتمع جمع كل أنواع البؤس والفقر والدعارة والإجرام، مجتمع اعتلاء أكتاف البؤساء ليصبح الآخر أعلى من الذين دفعتهم مساوئ الحياة في الريف إلى الرضا بمجتمع أشدّ وطأة من مجتمعهم القبليّ. هؤلاء المجبرون على المعصية الذين دُفع بهم إلى بيئة جديدة دفعاً قصم ظهرهم فانحنوا يقتاتون بقايا حياة على أرصفة الذلّ والقهر بشوارع الدار البيضاء وخلف الجدران العفنة الرطبة في دور الدعارة.


أموال في جماجم العهر:


أخازي يوجه دبوسه للحلال والحرام، فبين مجتمع عاهر فكريّاً يبصق بناته خارج حدود القبيلة بحجة العار إلى مجتمع الرذيلة، تأتي الأموال التي تسيل لعاب الطّهر المُدَّعى، فتصبح أموالاً حلالاً ويتمّ تناسي سؤال من أين لك هذا يا ابنتي؟

لكنّ مفهوم المال هنا يتغير عند إبراهيم، إبراهيم ابن والدته الشهباء ( ربيعة) , ذي الطفولة المكلومة بجراح العار والقهر ومحاولة الاغتصاب بدافع الشذوذ الجنسي الذي ردّته والدته عنه بكل ما ملكت أمومتها من أظفار تغرسها في وجه من يحاول تدنيس براءة طفلها، لتصبح أموالها حلالاً ، داعرة بمال حلال، بما أن القضية هي أن تطعم يتيماً بهذا المال، يتصارع المدنس والمقدس فتعلو أحقاد إبراهيم على امه المريضة ويحاول تعذيبها لكنه كثيرا ما كان يردد( يا عالم إنها أمي..إنها أمي)

ربيعة العاهرة بنت الواقع المفروض عليها والذي دفع بها إلى الرضوخ للذل بعد أن لفظتها الحياة خارج رحمتها.

هي ذاتها ربيعة المناضلة التي يمكن أن تصل بك عزيزي القارئ للأسئلة التي تفكر كثيراً قبل أن تطرحها على نفسك، ربيعة التي لفظها ابنها ابراهيم رغم مرضها، وكيف سيرضى بأم لم تخلف له سوى العار ولم يكن لها فضل عليه سوى تعليمه ليصبح محام، لكنه أصبح محام بمال العهر، صنعت الخطيئة مظلة آمنة له. وهنا الصراع الملحمي يأخذ ذروته.

يلعبها خالد أخازي كمن اعتاد القتال، يعرف كيفية التسلل خارج النص وتركه كأفعى تحت وسادتك فجلال الصديق المبهم صاحب الفكر الحربائي الذي يتغيّر تبعاً للظروف فتارة تجده الإسلامي المعتدل وتارة الملحد وتارة المتنكر للأصل وتارة المتشبع بأعراف القبيلة، وتارة المنافق الليبرالي اليساري. هذا التناقض نشأ بفعل طفولة واهمة لا تدرك حقيقة ما كان يجري حولها، جعلته متنكراً لأمه، وقد بنى حياة أسرية كاملة لا يوجد منها سواه كشخص تسيّره أوهامه. جلال هذا يطرح أسئلة القارئ الذي يمثل شهود الزور.

حكايات لجملة من النساء العاهرات/ المناضلات برأي ابراهيم وجلال فيما بعد ـ ضحايا مجتمع ذكوري، إلا أنّ الكاتب يظهر لنا أن ما بعد منتصف الليل كان القِدْرَ الممتلئ بصراعات إبراهيم وجلال النفسية تلك الأحقاد والآلام و المكابدة من قسوة حياة وأفكار مشتتة تجاه أمومة لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال إلا ان تكون مقدّسة.

وقد أظهر الكاتب هذا الشتات ليس فقط في تجلّيات شخصياته الفكرية انطلاقاً من حياتهم الشخصيّة بل في تنوع المناجاة بين استخدامه لضمير المتكلّم تارة والانتقال إلى ضمير المخاطب، في جوّ سردي قلّ فيه الحوار وطغت عليه السوداويّة والحزن. وهنا ينفرد أخازي بين الذي تقرأ لهم بتلك القدرة على الشيطنة باحترافية ثم الأنسنة باحترافية مماثلة وهي اللعبة التي لعبها في أعماله السابقة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم