يستعيد العُماني يونس الأخزمي في روايته الجديدة «رأس مدركة» مشاهد وحكايات عن جنوح بعض السفن والعبَّارات وتحطمها على صخور بحر العرب، وما أثير عن علاقة البدو، من أبناء المنطقة، بها وبطواقمها، والأساطير التي نسجت عن بعض الأحداث التي صاحبتها، وكيف جرى العبث بالحكايات التاريخية من خلال تدوينها من جانب آخرين ممن امتلكوا سطوة التدوين والتوثيق، فكانوا كتبة التاريخ وراسمي معالمه ومحطاته كما يتقاطع مع مصالحهم ورواياتهم. في الرواية (دار عرب، لندن، ٢٠٢٢م) – التي تعد الجزء الثالث من ثلاثية بحر العرب، التي نشر جزأيها؛ الأول بعنوان «برّ الحكمان» والثاني «غبّة حشيش»- يكون الاتصال والانفصال بين الأجزاء جليًّا، اتصال فيما يتعلق بتفاصيل المكان وأساطيره، واستكمال للرحلة الزمنية التي بدأها في الجزء الأول، بحيث يصل إلى الأعوام القريبة الماضية، ويقف عند سنة ٢٠١٨م، ثمّ يكون الانفصال بصياغة عالم روائي مختلف من حيث التفاصيل والشخصيات.

يبرز الروائي كيف أنّ بدو البحر؛ البحارة البدو، أبناء الصحراء وأبناء البحر المحاذي لهم في الوقت نفسه، كانوا سادة تلك المناطق المهمة على طريق التجارة العالمية، وكيف أنّهم نسجوا بطولاتهم التي سردها خصومهم وحوّلوها إلى قصص تسعى للنيل منهم، بحيث إن تاريخهم الشفاهي وقع ضحية تاريخ مدوّن على ألسنة آخرين تصارعوا معهم أو أرادوا الإساءة إليهم بطريقة
أو بأخرى.

ضحايا السرديات المهيمنة

من ليدز في بريطانيا إلى كثير من القرى والمناطق في عمان، ومنها: محوت وخلوف وبنتوت وصراب ونفون والدقم وشوعير ورأس مدركة واللبيتم والكُحل وصوقرة، يمضي الأخزمي برفقة شخصياته التي يسبر أغوارها، ويفسح لها المجال لتعبّر عن نفسها بشكل مقنع، بحيث يشكّل كل واحد منها بطولته الخاصّة وسرديّته المختلفة المتناغمة مع الحكايات المتجاورة والمتداخلة فيما بينها. يقتفي الروائي آثار الحكايات المنسوجة والمتناقلة التي تداولها الرواة عن الحادثة التي يستعيدها؛ إذ يقول الإنجليز: إنّ جماعة من البدو ارتكبت مجزرة بحقّ قبطان إنجليزي وعدد من رجاله، ويقومون بشيطنة البدو الذين يتمّ تصويرهم على أنهم متوحّشون لا يتوانون عن اقتراف الجرائم. في حين تكوت الحكاية المضادة التي لم تُوَثَّق، وهي حكاية أبناء المنطقة الذين اتُّهموا بالقتل، وانتُقِم منهم، وكيف أنهم دافعوا عن أنفسهم، بعد أن قتل الإنجليز شيخهم وبضعة رجال من رجاله، فلم يكن منهم إلا أن دافعوا عن أنفسهم ضد القتل والعدوان.

لأية حكاية هي السطوة والقوة والاستمرار؟ لأي رواة وأية سرديات تكون الغلبة؟ مَن ينتصر للمغدورين والمهمّشين الذين يُلعَنوا في تاريخ يكتبه خصومهم؟ متى يكتب ضحايا السرديات المهيمنة رواياتهم عساهم ينصفون أنفسهم وتاريخهم؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير يثيرها يونس الأخزمي في روايته «رأس مدركة» ويفسح المجال لشخصياته المنحدرة من خلفيات مختلفة متباينة التصريح بآرائها والتعبير عن أفكارها بحيث تكون أصداء للإجابات المفترضة، والنقائض التي تتداخل فيما بينها مشكّلة ألغازًا تاريخية ومُضفية عليها مزيدًا من الغموض والبلبلة والشكوك.

الإنجليزي ديفيد يقتنع بحديث زوجته صوفيا التي تخبره عن حكاية جدته روز التي كتبت يومياتها ومذكراتها، ووثقت فيها أنها حين أبحرت برفقة زوجها القبطان الذي لقي مصرعه في منطقة قريبة من رأس مدركة على ساحل بحر عمان، وقد خبّأ كمية كبيرة من الذهب تحت الصخور في قاع البحر، كي لا يسطو عليها البدو.

على الرغم من تردّد ديفيد والوساوس التي تسكنه فإنه يذعن لمحاولات زوجته إقناعه بضرورة خوض المغامرة والبحث عن الكنز الإنجليزي المدفون بين صخور ساحل رأس مدركة الصخري، والارتحال إلى تلك المنطقة النائية الغريبة عنه؛ كي يستخرج الذهب ويعود به إلى بلاده، وينتقم لجدته وزوجها القبطان المقتول.

إغراء الذهب المتخيّل يعمي بصر ديفيد وبصيرته، يقوده للتضحية ببيت أحلامه وبيعه ثمّ مشاركة أحدهم في مزرعة بحرية، وذلك كي يوجد لنفسه غطاء بالتنقل في المنطقة، والغوص في أعماق البحر بحجة ممارسته هوايته بالغطس والغوص والتصوير. انسياق ديفيد الأعمى لإلحاح زوجته صوفيا واقتناعه بحكايات جدته روز المكتوبة بدقة كبيرة وتوصيف لافت ألقى به في عالم الصحراء والبحر، من دون أن يعرف خلفية الناس الذين ذهب للعيش بينهم، وهو يتسلّح بتكتمه وسريته بحثًا عن تنفيذ مآربه التي لا يجد سبيلًا إليها.

الكنز الحقيقي

الرحلة هنا تغدو الغاية بحدّ ذاتها، واكتشاف المكان وروعته وما يلفّه من جمال وغموض وسحر يصبح الكنز الحقيقي الذي كان ديفيد يبحث عنه في حياته، ويجده في راحة البال في تلك الأرجاء ومع أبناء المنطقة الذين أكرموه وأحسنوا استضافته، ولم يتعاملوا معه بمنطق العدو أو الغريب الطارئ بشكل فجّ. يكتشف ديفيد نفسه ويصل إلى مأربه وغايته بالتصالح مع الذات، ويعشق المكان ويسكنه شغف غريب به. يلوم صوفيا التي أخفت عنه كثيرًا من التفاصيل وألقت به إلى عالم بعيد بناء على تلفيقات تاريخية، من دون أن تكون صريحة وصادقة معه، ينفصل عنها لكنه يظل مسكونًا بحبها المتجدد الذي يملأ كيانه ويترقب عودتها إليه. يصاحب ديفيد كلًّا من سند وأبي مريم، ولكل واحد منهما بدوره حكاية غريبة ضاربة في التاريخ والذاكرة، يكون الغريب للغريب قريبًا بصيغة غير مباشرة، يجمع بينهم سحر المكان وغربتهم فيه ومحاولاتهم ترويضه والتغلّب على الصعاب فيه، ويرتبط كل واحد منهم بتلك الأمكنة ويتعلق بها بشكل لا فكاك منه، ويكون التوحد والاندماج بها من أجمل ما يحدث لهم، لكن يظل لكل واحد منهم هاجسه الطاغي عليه الذي يرسم سياجًا من حوله يحيطه بها ويضعه في أتونها.

يحرّك يونس الأخزمي عددًا من الشخصيات في فضاء مفتوح على جهات مختلفة، شخصيات بنغالية وباكستانية وهندية وإنجليزية بالمحاذاة مع الشخصيات من أبناء رأس مدركة والمناطق المحيطة بها، وذلك في عوالم روائية ثرية يغوص عبرها في ثنايا التاريخ ويرتحل في طياته بالموازاة مع ارتحاله في صراعات الجغرافيا وفضاءاتها الغرائبية.

يرسم الأخزمي مصاير شخصياته التي تصل إلى نهاياتها، وتلك النهايات ليست إلا بدايات جديدة لها في عوالم وبيئات مختلفة، ويفسح لها مجالًا كي تعيد لملمة شتاتها والنظر بشكل مختلف جديد إلى ذاتها وعالمها، بحيث تعي تاريخها وجغرافيتها من منظور مختلف، بعيدًا من الأحكام المسبقة والصور النمطية التي تشكّل قيودًا على الذاكرة وتقوم بتفخيخ التاريخ وتلغيم الجغرافيا بالأوهام والسرديات المسكونة بالوساوس والهواجس واللعنات.

عن مجلة الفيصل 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم