«عندما تكون واسطة العقد بحجم نصب تذكاري لحادثة قديمة»

يدخل القارئ عالم الرواية وهو يعلم تمامًا أنه على وشك الولوج إلى عوالم مختلفة، غير تلك التي ألفها في حياته سابقًا. يعرف تمامًا ما تفعله أحداث الرواية لكسب لب قلبه وعقله، حيث إنها لا تفلت قبضتها إلا بعد أن تكون الحكاية قد أشبعته تمامًا، وكيف لا يكون ذلك وهو قد امتلك حياة أخرى، واختبر تجارب تفوق ما مضى من سنينه، كل ذلك وهو في ذات البقعة والمكان.

في رواية رأس مدركة «ثلاثية بحر العرب» للكاتب الدكتور يونس الأخزمي، التي «يلثم فيها الماء شفة اليابسة»، يبدو لي أن الأمر مختلف هذه المرة، فتشعر بأنك داخل محارة، تتكئ على جدرانها المطلية بالغشاء الصدفي اللامع اللؤلؤي، فتدرك أنك أمام رواية بهيمنة طاغية تحمل ثيمة قرى البحر والصحراء في آن، فوحدهم البحارة يعرفون تمامًا ما تفعله حبيبات الرمل بالمحار ليلفظ حبات من اللؤلؤ الثمين.

تقلب صفحات الرواية، وكأنك تنظم في ذهنك تلك الأحداث المسبوكة بإتقان، أحداث تلو الأخرى فتتراص حبيبات اللؤلؤ في عقد نظيم.

فبداية من ثالوث الصليب ( الأب والابن اليسوع والروح القدس) إلى ثلاثية رأس مدركة، « فلدى صخور رأس مدركة القدرة على الخداع، فهي تغطس في رمل القاع مترصدة، ولا تخرج للسطح إلا حين تلمح فريسة تعوم فوقها»، لتتوالى فيها الأحداث التي تسير باتجاه واقعي، وبطابع فني ينسج الجمال في تماسك بنائي ووحدة واحدة، وبلغة أدبية سلسة خالية من الرمزية والتعقيد وحوارات السفسطة، رغم تواري الحقيقة وتضمين النص بالدهشة المتواصلة، في أحداث بدأت بأصوات صراخ، وإنذار وعويل عن ملامح لعبارات وسفن عالقة، المرة تلو الأخرى على صخور رأس مدركة، ليلفظ البحر بعدها بقصة الغريب اليافع، الذي أصبح بعد ذلك سندًا للقرية، بعد أن تبناه الشيخ المحروم من الأبناء الأصحاء، «من اليوم وغادي سمونه سند بدل الغريب»، ليكبر سند ورغم ذلك يظل في حالة اغتراب عقلي واجتماعي شديدة من بعد فقدانه للذاكرة أو ادعائه بذلك، ليتفكر في الملكوت على نحو وجودي، «كانت قبضة الكف قوية ومؤلمة، تحسس معصمه، لا يزال الألم باقيا»، رغم ما قيل له من مواساة: «البحر الذي جدف بك إلى هناك، قادر أن يعيد لك ذاكرتك إذا صاحبته».

لتنتقل بؤرة السرد ليكون لشخوص الرواية من الإنجليز الأثر الأكبر بعد عمليات الاستثمار، ولكن ليس كاستثمار ديفيد الذي يبحث عن كنز دفين يعود إلى عقد من الزمان ونيف، من بعد إلحاح زوجته روز، والتي وقع بين يديها رسالة مخطوطة عن قصة تبدو فيها «الحقيقة أغرب من الخيال»، قصة لا تصدق، فالقصة التي وقعت منذ أكثر من قرن من الزمان، يبدو أنها في طريقها لأن تبعث من جديد، ليحترف التصوير والغوص والتنقيب ما بين الشعب المرجانية، وليقع بعدها في غرام الصحراء مثلما وقع غيره الكثيرين وليدرك بعدها سر الصحراء، فكما قيل له: «اكتشفت أنه يوجد في الصحراء بالمقابل أشياء لا توجد في المدن»، حيث إن «المعايير مختلفة هنا في بحر الصحراء، عن تلك المعروفة في بقية بحار العالم»، ينظر فلا يرى سوى زرقة مياه البحر، لا يقطعها شيئًا، تلتقي في نهايتها بزرقة السماء، وليهمسوا لبعضهم بعدها بالأسرار، التي يبدو كأنها أسرار على القارئ حتى، فالقارئ لم يعرف سر سند الحقيقي وغيرها من الأحداث، ليحكي بعدها الكاتب عن « قصص الجروف والكهوف المسكونة بالأشرار»، ابتداءً من جزيرة كوريا موريا وانتهاءً بجزيرة مصيرة، وغيرها الكثير من الأحداث المتنامية بين سطور الرواية ومع تقادم النهاية كخشبة بدن أو سنبوق تختال بين الأمواج، ولتمر بعض الأحداث والشخصيات على نحو بطولي ملحمي، في تناص مع مسار سردي وبمنظور نسقي مترابط الأحداث، وصولًا إلى قصة النصب التذكاري الذي يعود إلى وقائع حقيقية، حدثت عام 1914م، لحادثة غرق العبارة البريطانية من بعد اصطدامها بصخور مدركة، التي راح ضحيتها واحد وعشرين من البحارة.

والقارئ ينظم عقد الأحداث النظيم، ويتمتم بتسابيح السعادة حسب منظور شخوص الرواية: «السعيد هو الخالي من الهموم، الذي ما وضع رأسه على المخدة نام في لحظة»، الشيء الوحيد الذي سنعثر عليه في الجنة هو راحة البال، أنا في قمة راحة البال الآن، فأنا إذن في الجنة، لينتصر آخر للصحراء فيقول: «إن الملائكة في آخر الليل تأتي لتنام على مقربة منه على الرمال، ولتكون هناك حوارات أخرى بنزعة صوفية بعد الثمانين لا يوجد سوى الرب ليجيب على مخاوفك، فكيف لطبيب في عمر الأربعين أن يعرف أمراض من هم في الثمانين».

ليتغنى الكاتب في هذا النص برأس مدركة مسقط رأس الحكاية، رأس مدركة بفتنتها الإلهية الفريدة، ولكي تصبح رأس مدركة عروس الصحراء بلا منازع، فالأمواج الهادئة تلصف مياهها تحت ضوء القمر، وهي تنكسر على رمال الشاطئ، وعلى الصخور العائدة للأعماق بنعومة.

يلازمك الشرود وأنت تنظم حبات عقد الحكاية، بعد أن أخذتك عجائبها لتتساءل حقا عن الجذور البعيدة الممتدة لتاريخ الحكاية، واصل كل الفروع المورقة للأحداث المتخيلة، بداية من جنوح العبارات وحكاية سند، وقصة كنز الذهب وغيرها من الأحداث.

لتعرف أن واسطة العقد ربما يقودك إلى التمييز ما بين الحقيقة والخيال، ليتوسط النصب التذكاري الموجود حقا العقد، ذلك النصب التذكاري الرخامي على قبور ضحايا العبّارة الغارقة وملابسات أحداثها، التي تقاطعت مع «جلافة البدو وعدائيتهم المتأصلة في أعماقهم »، ولتكتمل بعدها الأحداث على نحو مغاير لوتيرة النظم الأخرى، فمالي أراها تنحرف على نحو لا يطاوعه عقل القارئ، ولا يتسق مع تسلسل الأحداث السابقة ونغمتها وإيقاعها، أم هي دروب الصحراء أو أمواج البحر غير المستقرة هي من أخذت النهاية تنحو على نحو غير متوقع، ولتتهاوى الأحداث على نحو مفاجئ متسارع، يشابه عمق البحر الذي «فاجأه الآخر يهوي في عمق أكثر مما يتوقع»، كسكاكين مسننة تخرج على نحو فجائي من بين مثالب الصخور ومن ذلك اللسان الصخري.

فكيف لحكايات ألفها القارئ يفاجئه الكاتب على أنها أحداث مغلوطة، وتدخل فيها وتتشابك مع ملابسات أخرى، وأن الحقيقة على زاوية قصية عن فهم القارئ، وهو لا يزال يطالب بالتوضيح حول نهاية بعض الأحداث، لتتنامى نهاية بعضها بحيوية دينامية متسارعة لتنزاح أحداث دون أخرى في سرد متعاقب يجيد صناعة الدهشة، لتكون النهاية كتلك الصحراء «ذات الفضاء البني الأغبر المترامي الأطراف»، فما بال حبات اللؤلؤ الأخيرة تنفرط من يد القارئ، لتنتهي به الرواية بمزيد من التساؤلات التي تحفزه على البحث والتقصي، عن الحقيقة والأحداث التاريخية المتخفية بشكل أحداث رواية متخيلة، لتلتمع رأس مدركة والصحراء، وتتلاشى البداوة لتحل محلها الحضارة والعمران، ليكشف لنا الكاتب جانبًا من جوانب الهوية العمانية، هناك في «رأس مدركة».

عن صحيفة عمان 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم