يتلقى القارئ أولى صدماته أو دهشته مع معرفة أن كاتب هذه الرواية - "مزار الدب"- هو ذاته الكاتب السياسي، والظاهرة السورية ميشيل كيلو، يأخذه السؤال مع تجاوز الصفحات الأولى من الرواية، أن كيف تسنى لكاتب غارق في السياسة ومصطلحاتها أن يستنبط صورًا بهذه العذوبة، والانسياب في وصف الطبيعة الساحرة لقرية صغيرة سماها "مزار الدب"، في إسقاط معنوي على بلده سورية، "التي كانت أبدية الخضرة تحدب عليها سماء عميقة الزرقة" (ص 11)، ويتخفف من مباشرته في مواجهة عمق الديكتاتورية الحاكمة، ليسرد لنا رواية توازي في عالمها وشخصياتها وتبدلات أحوال أبطالها حكاية سورية في عهدها الحديث، منذ النشأة الأولى لحزب البعث، إلى حيث أصبحت سورية تدور في فلك نظرياته ومنطلقاته النظرية، كما يذوب العابد في تلاوته تعاليم دينه.

انشغل الكاتب ميشيل كيلو في روايته بصناعة مرآة لعالم واقعي تقترب من وجوهنا أحيانًا، تواجهنا بتفاصيلنا، تكشف عوراتنا، وتتحدث إلينا في أحايين أخرى كأنها عقلنا الباطن ينبهنا إلى بطلان ما ذهبنا إليه، وحجم كارثة الإيمان والتسليم الأعمى بديانات استحدثها رجال السلطة، وعبروا من خلال براءة التابعين "لأحزابهم" المغطاة باسم مصالحنا، والتي تأخذ بيدنا إلى جنة رضاهم، فقفزوا من السلطة على الأملاك إلى السلطة على القلوب والعقول.

لا يحتاج المرء بعد تجاوز الصفحة 43 إلى تفسير لماذا لم يدفع كيلو روايته إلى النشر، منذ انتهائه من كتابة آخر سطورها عام (1990)، لأنه لو فعل لساق نفسه إلى الموت الذي كان مصير أبطاله في الرواية، الذين لم يستطيعوا تصديق مكرمات "الهادي"، رجل الدين الذي جاء من العدم، ليتولى مشقة هدايتهم، ويبدأ من الاستيلاء على ما يملكون تحت بند الاشتراكية، التي هي إحدى ثيمات حزب البعث الحاكم في سورية، "وليكن معلومًا لكم أن يديّ ستمتدان منذ اللحظة إلى جميع ما تملكون" (ص 43). تنازل الكاتب في روايته عن فكرة الانسياق وراء الحدث ليجعل الحدث يأتي إلى القارئ، يفترش ذاكرته الحديثة، هنا قرر الحزب سياسة الاحتواء بالإغراء بالمناصب، والشراكة في الفساد مرة، والترهيب مرات، بعزل كما حدث للجنيداتي وابنته، "سنتعايش مع عزلتنا... وأننا أول ضحايا وضع أدركنا أذاه قبل غيرنا" (ص 61). أو قتل المعارضين الأقل شأنا لتمكين قلوب الآخرين من الاتعاظ من مصير محتوم، لقد دفع أحد أكثر المعارضين إلى الانصياع له والالتزام بتعاليمه "أستجير بك وأضع نفسي في حماك". لقد وصف لنا الواقع في زمن الكتابة: "هذا زمن تعلم الصمت، زمن الحديث مع النفس وليس زمن الحقيقة المعلنة والرأي الجهير" (ص 55).

يستفّز كيلو القارئ عندما يضع الإشاعة بمواجهة الحقيقة، ويرصد طبيعة سريانها في مجتمعاتنا، وبخاصة عندما يروجها صاحب السلطة وموزعها بين الناس، ويضع تبريرات الحاكم على مقاس شعارات الدين، الذي يتطلب فرض سطوته على البلاد فتظهر هنا "ثيمة" الحرية الناقصة في الرواية التي تعكس واقعنا، التي لا تعني التساوي في الرأي مع رأي القائد "والقائد ليس كغيره، وإن صوته هو الصوت المقرر" (ص 58). ثم يكون لهذه الحرية المنقوصة سببها الذي يتمثل في السعي إلى وحدة الأرض ثلاثية شعار البعثيين، "أنها تتعلق بكرم الشيخ وبعد نظره وحكمته في توحيد القرية حول خيرها، الذي يعرفه وحده دون جميع الناس" (ص 58).


الرواية تصور حكم المستبدين أينما وجدوا على الأرض، لكنها بالنسبة لسوري عاش أحداثها هي دفتر ذكريات تصرخ في وجهه، وتحرك عواصف الغضب، كيف للثورة أن تتأخر خمسين عامًا تحول خلالها العباد إلى مستلبين

يصور ميشيل كيلو الجبهة التي حكمت سورية بالمجلس الذي "صار هو الأساس الوحيد لحياة المزار، وأن قراراته ملزمة ضرورية في أي شأن من الشؤون، بما في ذلك تلك الأمور الأكثر خصوصية وحميمية" (ص 66). لقد قلب المجلس حياة الشعب إلى جلاد وضحية، واستخدم الناس في تعذيب بعضهم، حتى أفراد الأسرة تحولوا إلى جواسيس ينقلون همسات بيوتهم إلى سادتهم، كما حول أفراحهم وأتراحهم إلى مهرجانات يلقي بها بخطاباته على مسامعهم، "لأنه هو العظيم الرحيم، الذي نرى في لقائنا احتفالًا بشمائله ومهرجانًا لفضائله" (ص 69).

الرواية تصور حكم المستبدين أينما وجدوا على الأرض، لكنها بالنسبة لسوري عاش أحداثها، هي دفتر ذكريات تصرخ في وجهه، وتحرك عواصف الغضب، كيف للثورة أن تتأخر خمسين عامًا، لقد تحولت خلالها العباد إلى مستلبين "لو قيض لأحد ما أن يسأل أهل مزار الدب عن أعز شيء يملكونه لقالوا رضاء الشيخ عنهم وبركة وجوده بينهم" (ص 82). ممنوع عليهم أن يتعاملوا معه كبشري، فهو لا يمرض ولا يستشفي، لا يحيد عن الحق، ولا ينسى، هو الذي يختلي بالخالق دون سواه "كي ينظم شؤونها ويضع أسس حياتها" (ص 82). ولا بأس "إن هو نظر بحقد إلى معارضيه، وبازدراء إلى مؤيديه، ما دام المستقبل قائما فيه هو، الرجل الذي لا يعرف كنهه أحد سوى كلثوم" (ص 97). وكلثوم هي زوجته التي اغتصب من خلالها الأرض، والبشر المحبين لها، وكأنها سورية بجمالها وما آلت إليه من بشاعة بعد اقترانها به.

استطاع ميشيل كيلو أن يصور جنازة بلد، ويستحضر مسخها من خلال رواية "مزار الدب"


تتلاحق الأحداث في "مزار الدب" ليعرفنا كيف يتدبر الهادي التخلص من خصومه وجبهته بآن معًا، فتتحول الحرية عنده إلى "مفتاح النجاة الطاعة، فهي بداية الطريق ونهايته، وهي أول الطريق وآخره" (ص 106). هذا هو الخيار الحر للشعب "الطاعة، الطاعة، الطاعة". رأى الناس صورة هاديهم "ترتسم فوق صفحة السماء بخيوط الشمس المتجهة نحو الغروب" (ص 109)، ومن لم يره فهو الزنديق وقليل الايمان واللا وطني، حتما تذكرنا هذه الصورة بإشاعة وجه الرئيس على سطح القمر، ومن كان أقل حظًا فقد تعثرت قدمه وكسرت أو غرق بمائه فصار مجنونًا، أو فقد وسيلة عيشه فصار فقيرًا منبوذًا.

طالب الدين الجديد (الحزب الحاكم) من الشعب في أول مبادئه إلغاء المبدأ الأناني "اعرف نفسك" ليحل مكانه مبدأ "انس نفسك" الذي عنى فيه أن جميع الناس صار لهم اسم واحد، في إشارة إلى ما كان في سورية بين البعثيين من أداة نداء "الرفيق"، فنسيت الناس أسماءها، "اعلموا أيضًا أن استجابتكم لإرادة الهادي في نسيان أسمائكم وأراضيكم وأطفالكم ونسائكم هي أول علامة من علامات خلاصكم، فقد أنكرتم على أنفسكم ما أنكره هاديكم عليها" (ص 156).

 الجدير بالذكر أنه تلت هذه الصفحة صفحة بيضاء، لم يتسن للسيدة شذا كيلو (ابنة الكاتب) الحصول عليها، بعد أن وجدت مخطوط الرواية في سورية، بعد بحث استمر لسنوات، وكان فقدان الرواية مثل غصة كبيرة في حياة ميشيل كيلو، حاولت شذا أن تهدي روح والدها أحد أعماله التي أحبها دون أن يراها تجد طريقها إلى يدي قرائها.

استطاع كيلو أن يصور جنازة بلد، ويستحضر مسخها من خلال رواية "مزار الدب". لقد ماتت المزار القديمة إلى الأبد، و"ليس النسيان الذي أصابها إلا شكل موتها وعلامته، وشكل رحمتي ودليله" (ص 159)، وأصبح كل سكانها لهم اسم واحد عبد الهادي نسبة للهادي، ولم يبق أمام الحاكم إلا مراقبة الأحلام لأنه لا يستطيع التحكّم بها كما فعل بأفكارهم "الأفكار تصنع وتعطى يا عبد الهادي، أما الأحلام فهي لا تصنع ولا تعطى، وإنما تنبثق من داخل الروح" (ص 162)، "خطر إنسان المزار يأتي من أحلامه التي تصنع أفكاره وآماله. إذا كان المزاري نسي من يكون، فلكيلا يحلم أو يفكر" (ص 163).

لقد أصبحت أحلام الشعوب تقتصر على قوت يومهم كما أراد لهم حكامهم، فصار الهم هو الحلم الذي صنعته السلطة لهم "تحكم بأحلام قريتك تتحكم بأفكارها" (ص 164)، ومرورا تتحكم باحتفالاتها وتصنع لها من خلالك أعيادها، فتحتفل القرية بعيد ظهور الهادي لأنه عيد نجاتها، وتغلق أبوابها على نفسها، لأن في اختلاطها فساد لا يؤمن جانبه "سنغلقها إلى أن تبرأ من ذاتها، وتهتدي إلى نفسها، وستكون عصاك مسؤولة عن هش الغرباء عنها" (ص 168)، وستراقب جمعية رعاية الأحلام الجميع دون استثناء لتقرر "لكل منهم أصدقاءه ومعارفه، ونوع الأفكار الذي يلائمه، وطبيعة الأحلام التي ستراوده، ومساحة الأرض التي عليه زراعتها، ونوع الطعام الذي سيحبه، والثياب التي ستعجبه" (ص 173).

أجّل ميشيل كيلو تعريفنا بمقدراته الروائية إلى ما بعد رحيله عنا، ربما أراد أن يخفف بذلك وقع الصدمة علينا، عندما نعرف أنه كان يرصد تفاصيل حياتنا، ويسجلها في حكاية، اختصرها ذات يوم بحكاية "العصفور"، الذي لم يتعرف إليه طفل المعتقلة في سجون حافظ الأسد، فلا الطيران حلمه، ولا صوت العصافير يطربه، إنها سورية التي عشناها، ولكنه أراد أن يعرفنا بها قبل أن تأكل تعاليم النسيان ذاكرتنا.


المصدر: ضفة ثالثة


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم