في البداية كانت الصديقتان تجلسان في المقهى، لاتبدو أن هناك مشكلات أو صراعات أو حروب (وملاحم) على الأبواب، ولكن فجأة وعلى غير توقع فتح لهم مكان اسمه "حارة السماء" ليظهر منها ذلك الشخص الغريب "رجل برأس كلب" وتتعاطف معه ومع حكايته واحدة منهم، وتتغير حياتها للأبد، وتبدأ أحداث الرواية..

بطريقته الشاعرية التي تجمع بذكاء بين الواقعية والفانتازيا يخوض الشاعر والروائي محمد أبو زيد بنا تفاصيل روايته الثالثة (ملحمة رأس الكلب) الصادرة مؤخرًا عن دار الشروق، ونتعرف من خلاله على عالم الصديقتين "لبنى" و"دو" اللتان تخوضان رحلة استكشاف عوالم غريبة في وسط البلد، وتسعى كل واحدةٍ منهما للتغلب على العقبات والصعوبات التي تواجهها أملاً في حياةٍ أفضل!

يقسم أبو زيد الرواية إلى عدد من الفصول القصيرة المعنونة، ولكنا يمكننا تقسيم الرواية على أبطالها الثلاثة وعوالمهم، خاصة وأن السرد مقسم بينهم على التوالي، فبين عالم "دو" الذي يتكشّف لنا تدريجيًا وهي الفتاة التي تبحث عن الحب بعد عددٍ من المحاولات الفاشلة، وعالم "لبنى" التي تؤمن بالسحر وتبحث عنه وتحب الحكايات، وعلى الجانب الآخر منهما تأتي شخصية "بني آدم برأس كلب" الذي تحمل قصته أبعادًا فانتازية ولكنها بلا شك تجعله معادلاً موضوعيًا لكل شخصٍ مرفوض/ منبوذ في المجتمع، وكيف يسهم وجود الثلاثة معًا في خلاص المجتمع بل والعالم مما قد ينتهي إليه.

(( كل ما حلمت به لبنى أن تملك مقشة، مقشة واحدة يا رب تعود بها من جامعتها كل مساء، تضعها في جراج العمارة، تطلب من عم سعيد البواب أن يلمعها و«يطوِّقها»، وفي صباح كل يوم تذهب بها إلى الجامعة، لا تحتاج أن تنتظر في موقف الحافلات وتتحمل سخافات المعاكسات اليومية، لا تضطر أن تأخذ «سويفل» أو «كريم باص» لأن ميزانيتها الصغيرة لا تتحمل أن تفعل هذا كل يوم، لا تضطر أن «تلم الأجرة»، أو تسمع العبارة المعتادة «الكنبة الخلفية أربعة» ولأنها ساحرة، ستحول المقشة عندما تصل الجامعة إلى مظلة صغيرة، ترفعها فوق رأسها ـ صيفًا وشتاء ـ ويمكن بقدرات سحرية صغيرة أن تحولها إلى بالون، تصعد به إلى أعلى لتراقب الشوارع أو براشوت لتهبط وتعيش فوق الأسطح التي تعجبها، خاصة تلك المزروعة بالورد، أو حتى تجلس فيها حين تتعب من رفع يدها، وتطلب منها أن تعود بها إلى البيت..))

تبحث لبنى عن السحر، وترى أنها ستتمكن من حل مشكلاتها به، بعد أن كانت تعاني من الوحدة وتحب الحكايات في حياتها مع جدتها ثم مع قطتها "أليس"، ثم تتعرف على "دو" وتسعى لمساعدتها من خلال السحر، وبتطور الحكايات وتغير المواقف تكتشف أن الأمر ليس على النحو الذي تتخيله، حتى صديقتها "دو" تسعى ـ بطريقتها الخاصة ــ للوصول لقلب صاحب رأس الكلب، وتتمكن بالفعل من الانفراد به وهناك:

(( تشعر أنها في السماء فعلًا، كأنها في الجنة، في مدينة تخصهما وحدهما، لا يعرفها سواهما ولا يمشي فيها غيرهما ولا تتابعهما نظرات الناس المتطفلة واللزجة تتمشى معه بين غابات كثيفة، وصوت مياه قادم من مكان بعيد طوال الوقت، ربما كان شلالًا سريًّا يصب تحت وسط البلد فكرت أن تذهب إلى أسفل سينابون فربما تجد هناك شجرة قرفة عملاقة، تمده بالطعم اللذيذ، أما إذا مرت أسفل مقهى زهرة البستان فربما وجدت مقابر جماعية لزبائن المقهى القدامى العالقين فيه من زمن، وأسفل «عمارة الإيموبيليا» لا ريب أنها ستقابل ليلى مراد ونجيب الريحاني يحاولان إكمال فيلم «غزل البنات»، وربما صادفت محمد فوزي يبحث عن المصعد ليعود إلى شقته، وأسفل صيدلية الإسعاف ستجد مخزنها السري الذي تخفي فيه آلاف الأدوية المختفية من السوق.))

وهكذا نتعرف على عالم كل شخصية من شخصيات الرواية وتلك التحديات التي يواجهونها في عالمهم وتكون المفاجأة أن المواجهة تكون في الأغلب بأبسط الطرق، فالشخصيات لاتواجه العالم بقسوة، وإنما على العكس بالدهشة والبساطة والأمل، بالتوازي مع حكاياتهم نتعرف على "الحكاية الغريبة" لصاحب رأس الكلب بداية من خروجه من قريته هربًا من لعنة جده وما أحاط بحكايته من أساطير وخرافات، ولكن تحل عليه أيضًا تلك اللعنة التي يصاحبها عددًا من التغيرات في شكله وذاكرته، وتكون مواجهته للمجتمع هي الأصعب، كل ذلك حتى يستقر به المقام أو تكون ذروة حكايته في "مدينة التائهين" وهناك نتعرف على الحكمة من وجود تلك الشخصية:

(( لا أجندات ولا أهداف خفية هنا الأمر وما فيه أن تتقبل نفسك وأن تتقبل الآخر كل إنسان لديه جرح أو ألم ما في حياته، شيء ما يؤرقه، ويخفيه عن الناس، ويعيش حياته كأن لا شيء هناك، خوفًا من أن يسخروا منه أو يبدو ناقصًا أمامهم بعض الناس يخفون شروخ أرواحهم بالضوضاء التي يثيرونها حولنا، من باب تشتيت الانتباه، بالتفتيش في عيوب الآخرين، بوصم غيرهم بالنقص إنهم يستحقون الشفقة والحزن يا صديقي ما تحققه مدينة التائهين لنا أنها تجعل جروحنا مكشوفة للآخرين لأننا ندرك أن لا أحد كامل، كمالنا كبشر في نقصنا.))

ثلاث محاولات تتوزع بينها الرواية بين محاولات البحث عن الحب ومحاولات التغلب على العقبات التحديات بالسحر، وبين السعي في مواجهة المجتمع/العالم بجرأة وشجاعة، تدور أحداث هذه الرواية التي يقرر كاتبها أن تنتهي نهاية شبه ملحمية، يمزج فيها عوالم الثورة والانتفاضات الشعبية مع فانتازيا تساقط الوجوه وخروج الحيوانات للتعبير عن نفسها، بالتزامن مع جائحة الكورونا 2020، حتى يفاجئ القارئ في النهاية بحضور تفاصيل أخرى تختم ذلك العالم على نحو لائق!

رحلة شيقة أخذنا فيها أبو زيد ببراعة السارد العليم، وتقنيات الشاعر الذي يعيد اكتشاف العالم وصياغته بطريقته، حتى النهاية، واستطاع في الوقت نفسه أن يؤكد رسوخ قدمه في عالم الرواية وتميز صوته فيها.

في نهاية هذه القراءة للرواية أحب أن أذكر القارئ بمقطع من رواية أبوزيد في السابقة "عنكبوت في القلب":

(( لا أستطيع أن أنسى أنني قلت لأصدقاء من قبل أنني لن أكتب رواية مرة أخرى وأنني أعتبر نفسي شاعراً، لكنها الرواية التي خرجت لي من المرآة حاصرتني في الغرفة، سكبت النسكافيه على أوراقي، وعطلت المنبه فلم أستيقظ من النوم لأذهب إلى العمل، فلم أعرف كيف أهرب منها ولم أجد أمامي سوى هذا الكيبورد.

الفقرة السابقة تصلح لأن يكتبها شاعر وليس روائي، لكنني كما قلت لكم من قبل، أُفضّل أن أكون شاعراً، ربما أخدع هذه الرواية قليلاً، وقد أكذب عليها، ليس إلا خوفاً من المرايا التي تطاردني في كل مكان))

ونحن نشكر تلك الرواية المراوغة التي تطارد الشاعر، وتفرض حضورها، ويتمكن في النهاية من صياغتها وكتابتها على هذا النحو الجميل، ونطالبه بأن يطلق سراح المزيد من الروايات.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم