في روايتها الأولى "مخرج للطوارئ" الصادرة مؤخرًا عن دار صفصافة، ترسم الروائية هالة الصياد صورة شديدة الواقعية لإسكندرية أخرى، بعيدًا عن الوجه الحالم القريب من البحر، قريبًا من عالم البسطاء والمهمشين، الباحثين عن لقمة العيش والحياة على الكفاف.

تبدأ الرواية باختفاء الأم "ألطاف"، ثم نبدأ بالتعرف على زوجها رضوان وعائلتها الصغيرة ابنها فارس وابنتيها مروة ومريم، كيف سيتعاملون مع ذلك الاختفاء، وكيف تتغيّر مصائرهم بعد غياب الأم التي كانت عمود البيت بالفعل، لاسيما في ظل أب يبحث طوال الوقت عن ملذاته وشهواته، وابن لايزال يعاني في مراهقته من أفكاره وهواجسه، وبينهما فتاة تسعى للحفاظ على ما تبقى من هذه الأسرة!

لعل السؤال البارز الذي تطرحه الرواية يتعلق بالتركيز على تلك الحالة تحديدًا "اختفاء الأم"، ورغم أن الرواية لا تقدم تفسيرًا واضحًا لذلك الاختفاء المفاجئ، بل وتمضي بنا الرواية وكأنها رحلة البحث عن تلك الأم الغائبة، إلا أن القارئ ولاشك سيصله من تفاصيل العلاقات بين الأم وزوجها "رضوان" وأبنائها، سواء بالنسب أو بالتبني، كيف كانت معاناة تلك السيدة، وكيف كان قرار هروبها من أسرتها منطقيًا وطبيعيًا!

ولكن الرواية لا تكتفي بذلك بالطبع، بل إنها تغوص داخل كل الشخصيات، سواء من كان منهم شخصيات رئيسية في العمل (عائلة ألطاف) أو تلك الأسر والعائلات المجاروة، أسرة الصديقة هبة، وأسرة العم زكي، والجدة ناهد، لكل شخصية في الرواية دور ووظيفة، يأتي ذكرها بشكل مركز أحيانًا، أو بإشارات موجزة ولكنها دالة في أحيانٍ أخرى، من ذلك مثلاً دور "ناهد" وأثرها في تربية ابنها رضوان "الأب"، وكيف كان الابن المدلل رغم تصرفاته، وكيف كانت تحميه من والده بشكل جنوني أحيانًا، وكيف كان أثر ذلك كله على سوء علاقاته بالنساء تحديدًا الذين لم تسلم منهم حتى أقرب الناس إليه!

والرواية رواية شخصيات بالمقام الأول، إن صحت هذه التسمية، فهي لا تقتصر على أبطال رئيسية وأخرى ثانوية، وإن كان ثمة حضور لشخصيات في مقابل أخرى، ولكنها في النهاية ترسم العالم المحيط بهم بكل تفاصيله وتشعباته، بل وتسعى ألا تترك شخصية إلا وقد أسندت لها دورًا هامًا في مسار الرواية، شخصيات مثل فريد ومنى تبدو مختلفة وبعيدة عن عالم ألطاف وأسرتها، ولكنهم يتورطون في حكاية العائلة، بل وتأثر فيهم بشكل واضح، فهاهي البنت أميرة لا تكتفي بدور هبة كصديقة وسند وداعم لها في مشكلتها، بل تسعى لأن يكون لها موقع حقيقي داخل تلك الأسرة، ورضوان بعد أن تأكد لديه غياب زوجته هاهو يبحث عن امرأة أخرى، ولن يجد أفضل من منى تلك الممرضة الأربعينية التي تبحث عن الحب والاستقرار.


(( استحضرت فريد، صوته، ملامحه، نظرته الحنون ودفء قبضته الكبيرة حين يتناول كفها متى يكف عن رؤيتها كابنة له، ويدرك أخيرًا أنها حبيبته؟ ورشته الصغيرة بالمجسمات الخشبية، شغفه الجميل، كل ما فيه جميل لقد ألحت عليه أن يجرب العودة إلى صناعة المجسمات مرة أخرى، وأن يعلِّمها كيف تصنعها، وعدها بذلك لكنها الآن تترك الكرة في ملعبه لبعض الوقت، تريد أن تشعر برغبته فيها، اشتياقه إليها، ألا تكون هي مَن تخطو نحوه كل مرة. تمنع نفسها جاهدة عن الاتصال به، تقاوم رغبتها في سؤاله عن متى يعاودان زيارة ورشته فيعلِّمها؟))


ومع كل هذا التركيز على الشخصيات وتفاصيل قسوة عالمهم، وما يواجهونه باستمرار من صعوبات، إلا أن "السياسة" تحضر أيضًا في الرواية، وهي تحضر هنا _ في ظني _ لسببين الأول هو التحديد الزمني للأحداث، فالكاتبة تنتقل بنا بين ماضي الشخصيات وحاضرها تبعًا للحظة غياب "ألطاف"، ولكننا لا نعرف في أي زمن تدور أحداث الرواية، فيأتي تحديد الوقت الحالي من خلال حدثين سياسيين، أولهما المشاركة في الانتخابات الرئاسية والآخر المشاركة في التصويت لتعديل الدستور، والسبب الآخر لحضور هذه الأحداث الهامة هو التركيز على عبثية المشاركة السياسية، لاسيما في تلك الطبقات الفقيرة، التي لا تملك قوت يومها، ولكن يوجد على الدوام من يوجههم إلى ضرورة وأهمية "المشاركة"، فيحضرون على الفور بل ويظهرون على الشاشات وكأنهم فاعلين مؤثرين!

لا تكتفي الرواية بعرض حياة شخصياتها ما يواجهونه من صعوباتٍ ومواقف، بل تقتحم بجرأة وشجاعة عددًا من المواقف المسكوت عنها في المجتمع سواء في علاقة الأب بابنته أو علاقة الشاب الذي يجد نفسه فجأة ضحية لمن يكبرونه، أو تلك العلاقة الخاصة التي أشارت إليها بشكل عابر في شخصية أميرة التي لاتجد لنفسها مكانًا تمارس فيه حايتها الخاصة.

((ساورته هواجسه فلم يعد يفهم سببًا لوجوده من الأساس، لِمَ خلق الله البشر؟ وتلك السيارة تخوض بهم الزمن نحو مجهولٍ غارق في ضبابيته هل يعثر على جثة أمه، أم يجدها تتنفس؟ وأميرة تلك؛ من هي ولِمَ تخشى الكلام معه؟ هل هي شريكتهما في الجريمة، أما تُرَاها من نفذتها، وقد تقاضت من رضوان أجرًا إحدى حلي ألطاف الذهبية أخذ يراقب الأسفلت تأكله إطارات السيارة ثم تلفظه خلفها كان الزمن يمر، ولو صارت ألطاف جثة فلن يجد من جسدها الآن إلا عظامًا أوليس غريبًا أن وجودي وجودك وجوده وجود الناس أجمعين دليلٌ فج على ممارسة الجنس، ثم تجد الناس يأنفون الكلام عنه كأنه عار؟! وكان يشير إلى ركاب المشروع بأصابعه، ويخبرهم أنهم هنا لأن أبويهم مارسا الجنس والناس في البداية استغفروا بأصوات عالية، فضحك منهم ضحكات عالية محشرجة، وشخر في وجوههم يؤكد لهم أنه لولا ممارسة الجنس لما كان لديهم فم يستغفرون به))

ثم حضور آخر لأمهات اختلف دورهم وتأثيرهم في حياة أبنائهم، فكما كان حضور ناهد سلبيًا بل ومؤذيًا بالنسبة لابنها رضوان ونشأته وتربيته، وجدنا حضورًا آخر لفيروز أم الصديقة هبة وكيف كان دورها رغم مرضها مؤثرًا على تلك العائلة. وفي المقابل يحضر الآباء على الخلفية بين من يسلم أمره لقيادة زوجته في نموذج أبو رضوان، وبين من يبقى أثره على ابنه حاضرًا رغم كبره في نموذج أبو فريد مثلاً.

هكذا استطاعت هالة الصيادة أن ترسم تفاصيل عالمها، وأن تقدم رواية شديدة الثراء والجاذبية، بل وأن تجعلنا نشعر بمأساة تلك العائلة في غياب هذه الأم، كما تطرح في الوقت نفسه الكثير من الأسئلة حول علاقة الآباء بالأبناء، وذلك الأثر الذي يضعونه فيهم منذ الطفولة وكيف يبقى مؤثرًا في حياتهم بعد ذلك على الدوام، رغم سودواية عالم الرواية ومصائر أبطالها التي بقي بعضها غامضًا إلا أن الرواية قدمتهم بشكلٍ مشوق وحقيقي إلى حد بعيد.

تجدر الإشارة إلى أن الرواية هي الأولى لهالة الصيّاد، سبقتها مجموعتين قصصيتين، وصلت مجموعتها "لاتتخل عن أشباحك" للقائمة الطويلة في جائزة ساويرس الأدبية عام 2021 ، كما كتبت وأخرجت الفيلمين القصيرين « شكلها سما» و(درة حلوة)، وصلت سيناريو فيلمها «وادي النمل» للقائمة القصيرة من جائزة ساويرس للأفلام الطويلة 2016.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم