د. هدى معدراني: باحثة وناقدة وأستاذة في الجامعة اللبنانيّة

تتألف رواية "مبني للمجهول – نقطة. من أول السطر" من  ٣٣٨ صفحة مقسّمة إلى فصول أو مشاهد تحت عناوين خمسة، لكلّ عنوان علاقة بقصّة أحد نزلاء دار العجزة. الرابط بين القصص وجود أصحاب الحكايات في مكان واحد، وجميعهم مسنّون لهم تاريخهم الذي عاشوه وعاصروه. لعلّهم يمثّلون عنوان رواية الكاتب البلجيكي المفترض يان دو سخيبّر "غير مرغوب فيهم أو هكذا يظنّون". كما يجمع بين القصص موضوع الحرب كثيمة مشتركة في كلّ القصص المختلفة ثقافيًّا وجغرافيًّا وزمنيًّا.

يفتتح الكاتب الرواية بكلمة يلقيها "يان دو سخيبّر" أمام الجمهور محتفيًا بتوقيع روايته الجديدة، متحدثاً عن القلق والأرق المتجددين مع انتهاء كلّ عمل روائي. يعرض مخاض ولادة عمله الأدبي "غير مرغوب فيهم أو هكذا يظنّون" مستخدمًا أسلوب التعبير المباشر، ليتولّى سرد السطور الأخيرة راوٍ من خارج الأحداث، هو الراوي العليم كليّ المعرفة، يقدّم ردة فعل الجمهور الذي أخذ يصفق ويهلل للكاتب يان دو سخيبّر. ويستمرّ الراوي العليم في رواية الأحداث في الفصول اللاحقة مع إعطائه الشخصيّات، ومنها توم فان ليندين، فرصة القصّ والتعبير، فيتحوّل توم  إلى راوٍ داخلي.

الفصل الأوّ  معنون وجوه، يمثّل توم فان ليندين العامل الذات، ويتمثّل العامل الموضوع لديه في كتابة رواية من واقع الحياة، يتحقّق له ذلك من خلال محاورة بعض المسنين نزلاء دارالعجزة - دار النور والحياة في مدينة أوستند البلجيكية، والاستماع إلى قصصهم، وتفاصيل حياتهم، ومغامراتهم، لتشكّل رواياتهم متن رواية توم، وبالتالي رواية هوشنك أوسي، إذ تشكّل رواياتهم المتفرّقة أحداث رواية مبني للمجهول، وتمثّل قصصهم الوحدات السردية النواة والإدماجية لهذه الرواية المتشعّبة الأحداث والممتدة الزمن والمتعددة الأمكنة، ويمثّل المسنّون الأغنياء المتروكون ورفاقهم أبطال القصص.

لا تبدو العلاقة واضحة بين الافتتاحية والفصل وجوه أو الفصول اللاحقة، إلاَّ أنّ الكاتب من خلال اعتماد حيلة الاحتفاء بتوقيع الرواية جعل القارئ للوهلة الأولى يظنّ أنّ باقي الصفحات هي الرواية التي كان يان دو سخيبّر يقدّمها، لينتبه القارئ لاحقًا إلى أنّه يقرأ رواية يكتبها توم فان ليندين، وهذا شكّل تجديدًا في بنية العمل. يشعرُ القرّاء أنهم إزاء ثلاث روايات واحدة حقيقيّة ملموسة موجودة في كتاب في العالم الواقعي، وإن كانت أحداثها متخيّلة هي هذه الرواية "مبني للمجهول نقطة. من أول السطر"، واثنتين متخيّلتين واحدة كتبها يان دو سخيبّر، وأخرى كتبها توم فان ليندين والاثنتان شكّلتا رواية "مبني للمجهول".

يحمل الفصل الثاني عنوان المرأة البعوضة، ويجسّد أول لقاءات توم فان ليندين بالمسنّين وبالتحديد المسنّة ماريكه. وفيما كانت ماريكه تروي له حكايتها قدّمت له أخبارًا عن احتلال بلجيكا للكونغو، وعن فظائع الاستعمار البلجيكي. تعود تسمية العنوان إلى البعوضة التي عقصت حبيب ماريكه فمات، ونقل لها قبل موته العدوى أيضًا، وسبّب لها المرض الذي بقي ملازمًا لها مدى الحياة.

ثم التقى توم بالعجوز هيوا الذي ينتظر صديقه آرام، وعنوان الفصل ساعة هيوا المتوقّفة، ولعلّ المقصود بالعنوان: إنّ الزمن توقّف لدى هيوا ساعة وفاة صديقه آرام، أو إنّ صاحب الساعة ينتظر عودة رفيقه آرام الذي لن يأتي لأنه مات، أو إنّ هيوا المتروك يعيش أيّامًا زائدة، وبالتالي هو غير مرغوب فيه أو هكذا يظن. وبينما كان هيوا يحكي حكايته، قدّم قصة آرام ووالده فرهاد، والجيش العثماني ووجوده في لبنان وسوريا، وتناول الانتداب الفرنسي والبريطاني في لبنان وسوريا وعرّج على حياة الأكراد، ومحاولة محمود البرزنجي إقامة دولة كردية في السليمانية شمال العراق عام ١٩٢٠ بعد الحرب العالمية الأولى وفشله. وسرد أحداثًا تاريخيّة تتعلق بالحرب العالمية الثانية وانهزام فرنسا واحتلالها من قبل الألمان. وانقسام الحكم في فرنسا الى حكومة فيشي التابعة للألمان وحكومة فرنسا الحرة التابعة للجنرال ديغول في انكلترا، وصولاً إلى حصول سوريا ولبنان والعراق على الاستقلال وانسحاب القوات الفرنسيّة والبريطانية.

بعد أن ينتهي حديث هيوا مع توم ينتقل الأخير إلى فصل جديد بعنوان مراسل حربي ويتحدث فيه العجوز ماتياس الذي خدم أربعين عاما في متابعة الحروب في العالم لصالح مجلة اليوم الثامن البلجيكية، ويزوّد توم بحكاياته عن الحروب التي رصدها في الشرق والغرب، وعن المقابلات التي أجراها مع قادة الأحزاب والحروب والمعارك والانقلابات. لقد رصد حرب ڤيتنام ويوغسلافيا والتقى عبدالكريم قاسم قائد الانقلاب في المملكة العراقية والتقى المّلا مصطفى البرزاني بعد رحلة جبلية شاقة، وتابع انقلاب العسكر في تركيا، وغطى معارك الفلسطينيين في الأردن. 

ينتهي الحديث مع ماتياس، ويبدا فصلٌ جديد بعنوان للحديث بقيّة ومسنّ جديد هو القس بول دو آردنمانس الذي شكّك بشهادات كل من تحدث مع توم، واتّهمهم بالكذب، مؤكّدًا أنّ ماتياس الذي ادّعى أنه مراسل حربي هو المزارع بيرت فان كووي الذي  لم يسافر خارج بلجيكا، ولا يحب حتى مشاهدة التلفاز ولا الاستماع إلى الراديو، وعالمه الوحيد مزرعته وحيواناته فقط. وهكذا أعاد توم الى نقطة الصفر أو إلى أوّل السطر، كما ورد في العنوان.

لكنّ المثير في الأمر كان حديث ماتياس كاستيلمان الدقيق عن تلك الأحداث، وكأنه عايشها بالفعل وربط بينها، ووصف أمكنة لم يرها، وحفظ التواريخ. والغريب أيضًا عندما يعود توم إلى أرشيف موظفي مجلة "اليوم الثامن" ومراسليها يندهش بوجود صحفي اسمه ماتياس، عمل في المرحلة الزمنية نفسها التي تحدث عنها المسن، ما يثير التساؤل: كيف وصلت هذه المعلومات إلى رأس العجوز ماتياس؟

ينهي  توم روايته ويصدرها على الرغم من هذه الواقعة التي أعادته إلى نقطة الصفر، وعلى الرغم من تشكيك العجوز القسّ بكل الحكايات، ولعلّ توم شكّك بها أيضًا. وعندما ينشر توم روايته يصله طلب صداقة وتهنئة على الرواية من شخص اسمه ماتياس كاستيلمان وصورة البروفايل للعجوز المزارع الثري بيرت فان كووي!

 تتألف، كما ذكرنا، من خمسة فصول، إذا جاز لنا أن نسمّيها فصولاً، غير متساوية الصفحات، يتناول كل فصل حكاية متشعبة تتناسل منها حكايات، ما يذكّرنا بألف ليلة وليلة. هي حكايات أو مشاهد تتضمّن معلومات تاريخيّة وجغرافيّة، واجتماعيّة، وسياسيّة، وأسماء شخصيّات لها وجود في العالم المرجعيّ الواقعيّ. وتتخطّى أحداث الرواية الحدود الوطنيّة والإقليميّة لتعطي صورة بانورامية عن العالم وأحداثه منذ ما قبل الحرب العالمية الآولى حتى بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، وعليه يكون التاريخ الرافد الأساس في تأليف هذه الرواية، وهذا ليس بغريب عن الفن الروائي الذي كان وما زال يستقي كثيرًا من موضوعاته من التاريخ.

نربط نهْلِ الروائي موضوعه من التاريخ بالتصدير الذي افتتح به هوشنك روايته، يقول: "الناس أبواب بعضهم، والأقفال والمفاتيح... الناس ألغاز بعضهم، والعتبات والمتون"، فيمثّل هذا القول إشارة إلى افادة الناس بعضهم لبعض، وخير دليل على ذلك ، رواية مبني للمجهول نقطة. آخر السطر، فما كان هذا العمل ليبزغ ويرى النور لولا حوارات أجراها العامل الذات توم فان ليندين مع المسنّين، بوصفهم خزائن حكمة وذاكرة، وقد مثّلوا أبواب معرفته، ومفاتيح روايته، ومتنها. وليس بالضرورة أن يكون المقصود هنا الأفواه فقط أو الرواية الشفهية وهي باب المعرفة في الرواية التي بين أيدينا، إنّما الأقلام والنصوص المقروءة هي خزائن معرفتنا أيضًا، وأبواب حياتنا، وهذا يأخذنا إلى التناص، وتعريفه بأنّه التداخل النصي والمعرفي، وأنّ أي نص هو فسيفساء نصوص. وكلّ نص يبنى على ما سبقه. وبناء عليه ما كانت هذه الرواية لتظهر إلى الوجود لولا قراءات الكاتب، وثقافته، وأفعال الناس وأقوالهم.

يدفعني هذا الكلام إلى رأي خاص لا أطلب من أحد تبنّيه، لكنّه وجهة نظر وعرضة للنقاش، امتثالاً لقول هوشنك الذي كتبه توم على حساباته في مواقع التواصل: "اخلص لفكرتك، ودافع عنها، تخلص لك، وتتعاون معك في التحرر منها والتوجّه إلى فكرة أخرى، ربما تناقضها أو تفنّدها. الأفكار التي لا تنجب نقائضهاعقيمة".

أعود إلى الرأي الخاص، وهو إنّ كل ما يُكتَب هو تجربة ذاتية، أو جزء من سيرة ذاتية، لكن لا أقصد بالتجربة الذاتية أو السيرة الذاتية أحداثًا عاشها الكاتب واختبرها وأثرت فيه فحسب، فالكاتب لا يكتب فقط  من خيالاته، ووحيه وإلهامه، بل جزء كبير من كتاباته هو أحداث قرأ عنها أو سمعها أو شاهدها أو تأثّر بها، وهذه صفات الكاتب المثقف والكبير، لأن الإبداع لا بدّ له من روافد وهذه الروافد هي التجربة، ولأنّ تجاربنا في الحياة قليلة، لأنّ سني عمرنا قصيرة، فإنّنا نحصل على تجاربنا ونعيشها في الكتب التي نقرأها، وتصير جزءًا منا، وهذا يتوافق مع ما قاله هوشنك على لسان القس بول دو آردنمانس في رأيه بالروايات والمؤلفات التي علينا أن نقرأ، هي تلك "التي تضيف إلى ذاكرتنا المزيد من الذكريات"  وبالتالي تصير جزءًا من حياتنا، ومن تجربتنا.

واللافت أنّ الروائي أثبت القول نفسه "الناس أبواب بعضهم، والأقفال والمفاتيح... الناس ألغاز بعضهم، والعتبات والمتون" على خلفيّة الرواية مضيفًا إليه مقطعًا مستلاًّ من نهاية الرواية: نتوهَّم أنّنا نتأقلمُ مع الزَّمن، هو َمَن يفعل فينا أفاعيله، ويمارس علينا ألاعيبَه. مناوأة الزَّمن مِحنة، ومسايرته مِحنة. وما الإنسان إلاّ الصِّراع الممتدَّ بين هاتين المِحنتين. مقصدي: الحياة بكلّ ما فيها من حقائقَ وأكاذيب َأوهامٌ وخرافات، صراعات ٌوحروب، حبّ وكراهية، هي برهةٌ بين غيبين. غيبٌ قبل الوجود، وغيبٌ بعده. لا وجود َلشيءٍ اسمُه العدم. هناك شيءٌ اسمُه الغيب، مبنيٌّ للمجهول. إذا توقّفتَ عن محاولاتِ اكتشافِه ضللت. وإذا واصلتَ اكتشافَه ضللت!". وقد جاء هذا القول على لسان بول دو آردنمانس االذي  أدلى بدلوه لتوم. وبالنسبة إلي، يمثل بول دو آردنمانس الجانب الفلسفي أوالحكمي أو العقل  النقدي والباطني لهوشنك أوسي، وما يعزّز لديّ هذا الافتراض: اختتام الرواية بمقابلة توم لهذه الشخصية. ومن المتعارف عليه أن الصفحات الأخيرة في الكتاب هي أكثر ما يعلق في ذهن القارئ، وبالتالي يبقى تأيرها في المتلقي. فضلاً عن اقتطاع كلمات مما قاله بول دو آردنمانس وإثباتها على الغلاف لتمثل كلماته إحدى العتبات التي تمثل أهميّة كبرى تجاري أهميّة العنوان إلى حدّ ما.

وقد قدّم بول دو آردنمانس رأيه في الكتابة والروايات وأثرها ونوع الكتب والحياة والناس والشك واليقين بشكل مباشر، ومن المحتمل أن تكون هذه الآراء هي نفسها القيم التي يحملها الكاتب.

أعود إلى القول المستلّ من الرواية والمثبت على خلفيّة الغلاف وأتوقف عند كلمة الغيب الذي استخدمه القس بوصفه بديلاً عن مصطلح العدم. تأخذنا كلمة الغيب إلى العنوان وإلى نسف القس لكل الحكايات التي سمعها توم من نزلاء دار العجزة: "كل ما أخبروك به هو كذب". لكن سواء أكان كلام القس صحيحًا أم لا، فهو جزء من الغيب الذي دافع بنفسه عنه، فما يغيب عنك ليس العدم، إنه حقيقة أو معرفة موجودة لكنها غائبة عنك، وحاضرة لدى غيرك، وكل ما يقال هو وجهة نظر، فالحقيقة في لا مقول الرواية هي وجهة نظر، والمخفي في هذه الرواية يشير إلى اختلاف الآراء بين الناس، وإذا قدّر لهوشنك نفسه أن يعيد كتابة الرواية سيكتبها بطريقة مختلفة وربما ستنطق بدلالات جديدة ومغايرة، لأنّه حتمًا سيكون تحت تأثير نفسي وثقافي واجتماعي مغاير، ذلك لأنّ الإنسان لا يسبح في ماء النهر مرتين. لذلك لم يمتنع توم عن طباعة الرواية ونشرها على الرغم من اقتناعه بما ذكره القس، وقد لمس ذلك بنفسه عندما أخبرته إدارة دار المسنّين عن عدم وجود مسنّ في الدار كان مراسلاً حربيًّا في الماضي.

بناء عليه، يقدّم نشر الرواية رؤية هي دعوة لقبول وجهة نظر الآخر المختلفة، وهذا يدعم الثيمة المسيطرة على الرواية وهي نبذ الحروب، والدعوة إلى السلم والسلام.

على هدي ما سبق، يجدر بي أن أشير إلى أن القارئ  يلحظ عداء الكاتب للعثمانيين وتركيا في أثناء حديث هيوا لتوم، ويتبنّى القارئ هذا الاتهام متسرّعًا بناء على هويّة الكاتب وانتمائه الكردي، لكن سرعان ما يتّضح للقارئ عدم صحة ظنونه، وتتجلى دعوة الكاتب للسلام ونبذه للحروب مسلّطًا الضوء على بشاعتها، باعتبارها الكارثة التي جردت الإنسان من إنسانيته، من خلال التحدث عن ماضٍ مجبول بالحروب والنزاعات والتفاصيل المؤلمة، منتقدًا الزعماء المستبدين بنظره، مثمّنًا مشاعر الحب النبيلة والسامية أساس العلاقات بين الناس.

فضلاً عمّا سبق، تبدو دعوة الكاتب إلى الانصهار الاجتماعي والعالمي من خلال الزواج بين الطوائف والاثنيات والأعراق المختلفة  فالمسلم السني يتزوّج درزيّة، والكردي يتزوّج بلجيكيّة والعربي يتزوّج غير عربية، وهذا خير دليل على حبّه للسلام، وكأنّ السعادة الحقيقية تكون بالابتعاد من التمييز العرقي والطائفي، وبرفض الحروب، ولعلّ الحيّز الجغرافي الممتد الذي تناوله الكاتب في الرواية يحمل دلالة وهي أنّ الكون على اتساعه يرزح تحت عبء مشترك هو الحرب وبشاعتها، وهذا يحمل دلالة الحقبة الزمنية الممتدة أيضًا، لتبيّن أن حياة الإنسان سلسلة حروب. أما آن له أن ينتفض عليها؟

أخيرًا، يقول هوشنك أوسي في إحدى مقابلاته: إنّه تعب وهو يكتب الرواية، فلا ضير أن يتعب القارئ بدوره في أثناء القراءة، ما دامت العملية الإبداعية تشاركية بين المبدع والمتلقي. ويقول أيضًا: إنّه قدّم للقارئ الفائدة والمتعة. فكيف أتعبت الرواية القارئ؟ وهل حصّل المتعة والفائدة؟

الرواية التي بين أيدينا حقًّا متعبة لأنها تشبه البحث العلمي من حيث الكم الهائل للمعلومات التي قدّمها الكاتب؛ فكلُ نزيلٍ من نزلاء دار العجزة سلك خطاً مغايرًا جغرافيًّا ومعرفيًّا، وهكذا شكّلت الرواية خزانة معرفيّة يحلو للقارئ أن يغرف من هذا الكم الهائل من الأحداث التاريخية المتباعدة مكانيًّا ذات الحمولة الاجتماعيّة والسياسية. ولعلّ الرواية، في أغلب أحداثها، ليست جزءًا من الخلفيّة الثقافية للقارئ العادي. وهذا يدفع القارئ إلى البحث والسؤال والقراءة لملء الفجوات التي أحدثتها الرواية، وبذلك يكون القارئ قد حصل على المتعة والفائدة في آن. وقد قدّم الراوي هذه المعرفة التاريخية والسياسية والجغرافية بأسلوب روائي سلس وانسيابي، وأجاد تشبيك الأحداث، وربط مصائر الشخصيات، فلم يملّ القارئ الذي حفّز فكره حتى يستوعب العنوان ويتقبّل الخاتمة التي قدمها القس بول دو آردنمانس الذي رفض كل تلك الروايات التي سمعها توم ودوّنها وقراناها. هو فضاء مليء بالفجوات يملؤه القارئ بحسب ثقافته وإدراكه، وهي مساحة حرة لاجتهاد القارئ، وتأويلاته بغموضها المغري، فكل شيء كما في العنوان مبني للمجهول، الحياة لغزٌ كبيرٌ ما على الإنسان إلا أن يجتهد في قراءتها، وقد نتعثر في أثناء بحثنا عن الحقيقة، ما يجعلنا نضع نقطة، ونعود إلى أول السطر. فهل تنسف النقطة كل ما مضى؟ وهل يعيدنا أول السطر إلى بناء معرفة جديدة خالية من ذاكرة سابقة؟

يظنّ القارئ أنّ الكاتب سيمحو كلّ شيء ليبدأ من جديد، من أول السطر، لكن توم نشر الرواية، ما يفيد الاستمرارية، وقبول الجديد والمغاير والمختلف، والسعي إلى البحث، وعدم التوقف والاستسلام.

في الختام، ما يعطي هذه الرواية جماليتها وفرادتها ليس الكم الهائل  من الحصيلة المعرفية والتاريخية والاجتماعية والجغرافية والنفسية التي يفوز بها القارئ بعد قراءة الرواية فحسب، إذ يمكنه الحصول على المعرفة من كتب التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والتقارير السياسية، فهذا كله لا يصنع رواية جيّدة. إنّما تجلّت فرادة الرواية بالبناء الروائي المحكم والمركّب الذي ناسب الفكرة التي تحملها الرواية.

 اللافت في الرواية هو المقدّمة التي تمثلت في كلمة الكاتب يان دو سخيبّر، وحوار توم الأخير مع القس الذي نسف كل روايات المسنّين التي دوّنها توم، ما خيّب أفق المتلقي، إضافة إلى شخصيّة ماتياس التي بقيت ملتبسة لدى القارئ، والخاتمة التي تركت القارئ يتأرجح بين الشك واليقين، والتي تشبه إلى حدٍّ كبير لحظة التنوير في القصة القصيرة، فبعد هذا البحث الطويل في الأحداث الذي شغل 338 صفحة جاءت الخاتمة المفاجئة لتنسف كل ما سبق، كالقنبلة فجّرت كل شيء في ذهن  المتلقي، وفتحت أمامه آفاقًا واسعة يبنيها بأفكاره.أضف إلى ما سبق العنوانالمخاتل.

إنّ كلام القس وتشكيكه بروايات زملائه يسمح لنا أن نشكك بكلامه أيضًا. وبناء عليه، كل ما قيل وما يقال مبني للمجهول، فالحقيقة، بحسب مضمر السرد، غير موجودة. كل شيء في حياتنا في علم الغيب، كلّ يتلقّاه بطريفة مختلفة. حتى أنّ  طلب الصداقة الذي وصل إلى توم يدخل في حيّز الشك واليقين، التخيّل أو الواقع، ويبني عليه القارئ عدة احتمالات.

لا بدّ من الإشارة إلى كثرة المشاهد الجنسية غير المسوّغة في الرواية، هل يعود السبب إلى اقتناع الكاتب بما  ذكره الراوي  بأنّ الجنس في كثير من الأحيان لا يكون تعبيرًا عن الحب وحسب، بل وسيلة وغاية في الآن عينه؛ بهدف استرداد التوازن والعودة إلى الحياة مع كلّ ما ينغّصها من هموم ومشاكل وأعباء؟ أو لعل الكاتب يعتقد بأن الرواية أسوة بالحياة لا تكون بلا حبّ وجنس؛ فالحب والجنس أساس استمرارية الوجود، والجنس في الرواية يسهم في شعبيّتها وانتشارها واستمراريتها.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم