لاتزال الحرب حاضرة في الرواية اللبنانية حتى إن قرر بعض الكتّاب البداية من أماكن وطرائق مختلفة، تهيمن الحرب بظلالها القاسية على الشخصيات والأفراد، وتضيّع الكثير من فرص الحياة، ولكن الروائي الذكي يسعى دومًا لعرض صور الحياة تلك، وهذه المحاولات التي وإن بدت مشتتة ومتفرقة إلا أنها ربما تعطي الأمل في القدرة على التجاوز يومًا ما حتى ولو كانت فرح خارج حدود الوطن!

وفرح هنا شخصية ثانوية، ولكن لها حضور رمزي خاص، تسعى بطلة الرواية دورا لأن توفّر لها شروط الحياة كلها، ولكنها لا تجد حياتها إلا هناك بعيدًا عن لبنان، فتقرر ما إن تجد رفيقًا لرحلتها أن تهجر "كل البلاد العربية" على حد تعبيرها علّها تجد ملاذًا آمنًا هناك.

في رواية "بودابار" للروائية لنا عبد الرحمن الصادرة مؤخرًا عن منشورات ضفافت تعود بطلة الرواية "دورا" إلى قريتها مع وقع جريمة قتلٍ غريبة وغامضة، ربما تبدو للقارئ لأول وهلة وكأنها الأساس الذي تقوم عليه الرواية، أو هي محاولة من الكاتبة لجذب انتباه القارئ بالحيلة البوليسية التقليدية، ولكنها سرعان ما تضعه في قلب شخصيات الرواية وأحداثها، لنجد أنفسنا إزاء نماذج بشريّة شديدة الخصوصية والرهافة، تحكي عن كل واحدٍ منهم وعن سيرتهم بشكلٍ موجز، حتى نتعرف على عالم الرواية في واحدةٍ من أحياء بيروت التي لاتزال تجتر آثار الحروب والدمار، ويسعى أفراد هذا الحي لتجاوز مآسيهم كل واحدٍ بطريقته إمّا بامتلاك المزيد من العمارات والسيطرة على الأرض، أو محاولة الاهتمام بشؤون جيرانهم وحالتهم الصحية والنفسية، وإمّا بالسعي وراء كشف الغيب واللعب بأوراق المستقبل لكي يطمئنوا لحاضرهم!

جمانة، ودورا، وهيام وإيمان، وديبة، وغزلان، شخصيات نسائية تختلف توجهاتها وأفكارها، ولكنهم يلتقون في ذلك الحي وهذه الرواية، وتختلف في النهاية مصائرهم، كأنما أرادت الروائية لنا عبد الرحمن أن تعرض لوحة نسائية بانورامية متنوعة لأطيافٍ مختلفة من النساء وكيف عاشوا وحلموا وتحركوا على هذه البقعة الصغيرة، بين حي الأمير ومقهى "بودابار" الذي يحمل اسمه ذلك التناقض الظاهري بين الحياة الروحية والمادية، ويفرض حضوره على كل الشخصيات، رغم ما بينها من اختلاف وتباعد!

((بوذا يُمثل حضور الله عند البوذيين، لذا فكرت أن هذا التجاور بين المطلق والملموس، ربما هو الذي جعل من موسيقى «بودا بار» تحظى برواج مثير عند مستمعيها، كما حظيت الأماكن التي حملت الاسم ذاته بخصوصية تميز المكان مع ديكورات وألوان تستدعي الغموض في حضور تماثيل بوذا، وغياب موسيقى «الزن». في سنوات مراهقتها عرفت موسيقى «بودا بار»، وأحبتها جدا، ظلت تستمع إليها لسنوات، لاحقا وهي في نيبال حين حضرت الصلاة البوذية في أحد المعابد، واستمعت لموسيقى الزن، أدركت أنه لا صلة تجمع بين الموسيقى الغربية التي تسمعها، وتلك الأصلية القادمة من أعالي جبال التيبت، التي تؤلف بين نقرات آلة تشبه الدف، وأصوات الطبيعة، وهمهمات الصلاوات البديعة.‫ استعادت للحظات ذكرياتها مع تمارين اليوغا، وجلسات التأمل الطويلة، وانهماكها لسنوات في القراءة عن بوذية الزن… كل هذا يبدو بعيداً جداً عنها الآن، كما لو أنه حدث مع فتاة أخرى. لكن ظلت معها كلمات المانترا التي استقرت في داخلها، وكررتها مرارا. ساعدتها موسيقى تلك المانترا على تجاوز صعوبات كثيرة، كانت تتساقط من داخلها، وتتلاشى في فضاء الكون الشاسع، فلا يبقى لها إلا الانتظار والتسليم))

هكذا تتناول الكاتبة فكرة العنوان/الرواية، ورغم ذلك الحضور للموسيقى في عدد من مقاطع الرواية إلا أن الصراع لم يكن جليًا بين نفسية شخصيات الرواية، في الوقت الذي ظهر جليًا اختلاف شخصية واحدة، هي جمانة، التي لم تشأ الكاتبة أن تظهر إلا من خلال الآخرين، فهي القتيلة منذ السطور الأولى، والتي لانعلم كيف وأين اختفت جثتها، ولكننا نتعرف من خلال أصدقائها وحبيبها على عالمها، وكيف كانت غريبة وسط هذا العالم الغريب!

ولكن القارئ سرعان ما يكتشف أن جمانة ليست مجرد شخصية روائية وإنما هي معادل رمزي للبلد/بيروت والمكان كله، هي معادل رمزي للجمال الاستثنائي المستباح الذي تم انتهاكه بالحروب والقتال والدمار.

تبدو شخصيات الرواية الذكورية على نحوٍ من الانهزام والاستسلام أمام الواقع الراهن، رغم أن كل منهم يسعى لأن يجد مخرجًا مما هو فيه بطريقته، إلا أنه في النهاية مستسلم، ينتظر مرور الزمن كبارًا وصغارًا حتى تمر المأساة، حتى أن مروان الذي عانى من رحيل حبيبة عمره جمانة بل لعله الصوت الوحيد الخاص في هذه الرواية، لايتمكن من تجاوزها حتى بعد أن يجد حبيبة أخرى، لاتزال الأولى حاضرة أمامه بخيالاتها وذكرياتها وأفكارها، فيما الطبيب يوسف يسقي ورود حديقته منتظرًا أن تنمو شجرة أخرى وتشرق شمس جديدة!

يقول مروان:

((في سنوات مراهقتي صار لي عالمي الخاص الذي تشكل بعيدا عن أمي، رفاق الدراسة، الغراميات العابرة الصغيرة، النزهات البحرية والتخييم في أماكن بعيدة، كل هذا أخذني منها. أحزنها الأمر لكنها تركتني أخوض تجاربـي وحدي، أعرف أنها كانت تراقبني من بعيد وتتبع أخباري بحرص كي لا ينكشف أمرها بأنها تتجسس علي، لكني كنت أكثر كتمانا من أن تنكشف مغامراتي التي أخجل منها، أول سيجارة ملغومة، أول مغامرة جنسية، أول عراك من أجل فتاة تَرك جُرحا في جبيني، وتسببت فيه بكسر إِصبع خصمي أبعدتني أمي عن السياسة، والنزاعات الطائفية، رسخت في داخلي ايمانها المطلق بلبنان الموجود في خيالها فقط، بلا طوائف، ولا نزاعات، كانت تكرر جملتها التي تستفز أبـي: «بأن كل من يتحدث بالطائفية، هو شخص ملعون.» لكن لبنان الذي حلمت أمي به لم يتجل واقعيا سوى في البحر والجبل وفي الغابات البعيدة، والأنهار الصغيرة، وفي قلة من الوجوه التي عرفتها. أما سائر ذلك فقد كانت شِباكا منصوبة باستمرار، صراعات طائفية، وانقسامات، كان أبـي ضمن حلقاتها، وأنا كنت ابنه النافر، الذي خيب ظنه على الدوام))

هكذا حفلت الرواية بشخصيات مختلفة، لم تقتصر على فكرة واحدة أو قضية بعينها، وإنما اتسعت لتشمل أطيافًا مختلفة من المجتمع اللبناني وما دار فيه من تغيرات وتقلبات، وكيف تركت الحرب آثارها بعد ذلك على الجميع. ورغم هذا الثراء الذي حفلت به الرواية، وهذه الشخصيات المتعددة إلا أني كنت أظن أن اقتصار الرواية على عدد أقل كان سيمنح الكاتبة المزيد من التفاصيل، ويجعل القارئ متماسًا مع العمل وشخصياته بدرجة أكبر.

"بودابار" هي الرواية السادسة للروائية لنا عبد الرحمن، صادرة مؤخرًا عن منشورات ضفاف، سبقها عدد من الروايات الناجحة، منها أغنية لمارغريت عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2011. ثلج القاهرة، دار آفاق 2013 وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، وراية قيد الدرس عن دار الآداب 2016

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم