كيري هولم تستعرض في "الأسلاف" تراث الماوري الغنيّ بأفكاره وأساطيره وقصصه
في أمسيةٍ من عام 1985، تقدّمت مارين إيفانز، ميرياما إيفانز وإراهيبيّتي رامسدِن "من جمعيّة سبايرال كوليكتِف" لتسلّم جائزة البوكر المرموقة- أصبحت لاحقاً مان بوكر برايز- نيابةً عن الكاتبة النيوزيلنديّة كيري هولم التي لم تحضر فعاليّات الحفل. في المسافة القصيرة نحو المنصّة، كانت رامسدِن تُنشد كلماتٍ من تراث الماوري، ترحيباً بالكاتبة وروايتها واحتفاءً بها، خاصةً وأنّ هذا يُعدّ فوزاً كبيراً لـ"سبايرال كوليكتِف"، الجمعيّة النسويّة التي آمنت بالرواية التي سبق أن رفضها ثلاثة ناشرين. حصل ذلك بعد إعلان السياسيّ والأكاديميّ البريطانيّ نورمان سانت جون ستيفاس فوز رواية "الأسلاف" لكيري هولم بالجائزة، بعد منافسةٍ قويّةٍ مع رواية "الإرهابيّة الطيّبة" لدوريس ليسنغ. وكما هو حال المنافَسات الأدبيّة الكبرى، فلم تخلُ المنافسة من انقسام الآراء، ولم تحظَ رواية "الأسلاف" بالإجماع الذي يكرّس أهمّيّتها، لكنّ البارون ستيفاس قال إنّ الجائزة لن تُمنح لعملٍ يعدّ "قراءةً سهلةً" وإنّما ينبغي أن تُمنح لعملٍ مؤثّرٍ في السرد المكتوب باللغة الإنجليزيّة. ووصف رواية "الأسلاف" لاحقاً بأنّها روايةٌ مكتوبةٌ "بلغةٍ شعريّةٍ عاليةٍ ومكثَّفةٍ".
لكنّ الجدل المُثار حول فوز عملٍ كبيرٍ بجائزةٍ كبيرةٍ لا يمكن أن يقلّل من استحقاقه، خاصّةً إذا كان من نوعيّة رواية "الأسلاف"، التي تصفُها كاتبتها بأنّها "حكايةٌ بسيطةٌ، عن ثلاث شخصيّاتٍ فحسب"، لكنّها في واقع الأمر مليئةٌ بالروابط والعلاقات بين الشخصيّات الثلاثة والعالم. كيروين هولمز "كيري، في تماهٍ واضحٍ مع اسم الكاتبة"، فنّانةٌ منعزلةٌ انكفأت على ذاتها لتعيشَ في "برج" حيث تقضي وقتها في التأمّل والتدخين والعزف على الغيتار. أصولها مختلطةٌ، نصفها من الماوري، ونصفها من الباهيكا "النيوزيلنديين الأوروبيّين". تقوم حبكة الرواية على علاقتها المفاجئة مع سايمون بي جيلايلي، طفلٌ في السابعة، أبكمُ، يعاني من صعوبةٍ في التواصل مع العالم برغم اهتمامه الشديد لاسكتشاف ما حوله. لا أحدَ يعرف خلفيّته قبل لقائه بوالده بالتبنّي، جو جيلايلي. يعاني هذا الأخير صدمةً عاطفيّةً وعصبيّةً سببها موت زوجته وطفله. يتكفّل بتربية سايمون، الذي وجده على الشاطئ، لكنّه يعاني من سلوكه العنيف غير القابل للتحكم تجاه الآخرين، وبخاصّةٍ سايمون، الذي لايستطيع التخلي عن عادة الشراب. تعود أصوله إلى الماوري، لكنّه في مواقفَ كثيرةٍ يبدو متنكّراً لهذا الانتماء، ومحاولاً التملّص منه.
لا تخلو هذه العلاقة الثلاثيّة "الأب والابن والفنّانة العبثيّة" من الالتباسات برغم ما تبدو عليه من البساطة، لأنّها تكشف، من ضمن ما تكشفه، الاختلالات التي يعاني منها كلّ واحدٍ منهم في التواصل مع نفسه والآخر والعالم. كيري، التي تحمل ملامح النسويّة والرافضة وضع النساء الأخريات اللواتي تعرفهنّ، الباحثة عن هويّتها واستقرارها إذ تضطرم في داخلها أسئلةٌ تبقى طوال الرواية مفتوحةً على الكثير من الإجابات. فنّانةٌ تظهرُ في بعض الأحيان بوهيميةً وفي أحيانٍ أخرى متعلّقةً بتراثها المختلط مسكونةً بالتزامها بالبحث عن هويّتها. كما أنّ علاقتها بجو لم تخلُ من التباس العلاقة التي تتّجه أحياناً للاكتمال الحسّيّ ثمّ تتراجع أخيراً بسبب ما يبدو عليها أنّها "لا جنسيّةٌ".
هذه العلاقة غير المكتملة تعطي لمحةً عن العلاقات الأخرى والأسئلة المطروحة في الرواية، فهي ليست عن الحبّ فحسب، برغم أنّه مسألةٌ أساسيّةٌ فيها، ولا عن العنف، برغم كونه محرّكاً مهمّاً للأحداث، ولا عن العلاقات الإنسانيّة، ولا عن البحث الهويّاتيّ، وإنّما هي عن كلّ هذا وأكثر. أسئلةٌ مفتوحةٌ، رحلاتٌ شخصيّةٌ نحو الخلاص الفرديّ والجمعيّ، الشفاء بمعناه النفسيّ والماديّ والفيزيولوجيّ. قضايا تحكمها العلاقة مع الأرض والموتى والأسلاف وتأثيرها على الحاضر.
في سردها الحالم أحياناً، والذي تعترف كيري هولم بأنّه لم يهدف لأن يكون تقليدياً من ناحية الشكل أو المضمون - بما في ذلك الشكل غير المألوف لتنسيق النصّ والجمل وعلامات الترقيم - والواقعيّ الصادم أحياناً أخرى، تُكرّس الكاتبة فكرةً رئيسةً هي ضرورة أن يحبّ المرء ذاته، وأن يحبّ أرضه وهويّته والتراث الروحيّ الذي ينتمي إليه. ولعلّ شخصيّةَ هولم ذاتها حاضرةٌ بقوّةٍ في ثنايا الصفحات، فأسلوبها في الكلام وتناولها للأفكار يبدو شديد الاتّساق مع ما تقدّمه عبر كيروين هولمز، بطلةِ الرواية.
لا تبتغي هولم تقديم دروسٍ أو مقولاتٍ أخلاقيّةٍ صرفةٍ، فهي تنشغل بالتجريب الكتابيّ والأسلوبيّ الذي ميّز روايتها. قصائدُ صغيرةٌ، سردٌ مرسلٌ مع لمحات من تيّار الوعي ضمن إطارٍ أدبيٍّ لا يُخفي تأثّره بأعمالٍ كبرى وأسماءٍ مهمّةٍ، من "مثنوي" جلال الدين الرومي وصولاً لتشارلز ديكنز.
ولعلّ مصدر الإلهام الكبير الذي استقت منه هولم أدبها عموماً، وروايتها هذه خصوصاً، هو تراث الماوري الغنيّ بأفكاره وأساطيره وقصصه. تراث شعبٍ جَسور مرتبطٍ بالأرض لكنّه يصل في خياله للسماء فيختلق عالماً ثريّاً من الأرواح والرقصات والطقوس والتقاليد. وهو ما أضفى على الرواية ثقلاً فنّيّاً وأدبيّاً واضحاً، مع ما تحمله من تجاذبات الأصالة في مقابل الهجنة، التراث في مواجهة التأثيرات الكولونياليّة، الفرد في مقابل الجماعة، الفنّ في مواجهة البشاعة، والحبّ في مواجهة الموت.
__________
* مقدّمة الترجمة العربيّة لرواية "الأسلاف" الصادرة بترجمة فادي الطويل عن منشورات رامينا في لندن ٢٠٢٤.
0 تعليقات