بعض الروايات تحمل فكرتها وعنوانها فقط أسباب نجاحها، أو عدمه، والبعض الآخر يعتمد على اسم كاتبها لاسيما إذا أصبح له جمهور قراء واسع "مريدين"، والبعض الآخر، وربما الأخير، هو الذي يقوم نجاحه بنفسه، وهذه في ظني الرواية الناجحة بالفعل، التي لا تعتمد على فكرتها المجردة، ولا اسم مؤلفها، وإنما على ما فيها من محتوى جذاب قادر على الإمساك بتلابيب القارئ من بداية الحكاية إلى نهايتها.

مع "كريسماس في مكة" أشعر بداية أني آخر من يقرؤها، فقد سمعت عنها وعن كاتبها الكثير، حتى قررت أخيرًا أن أخوض تجربة القراءة لـ أحمد خيري العمري، والذي كنت قد سمعت أيضًا عن كتابات أخرى له تتسم بطابع "الإسلامي" فهو الذي كتب عن "كيمياء الصلاة" و "السيرة مستمرة" و"البوصلة القرآنية" وغيرها.

فكرة الرواية تقوم (منذ عنوانها، الذي فوجئت أنه تغيّر وفقًا لأهواء إسلامية لا ترى أنه يصح أن نقرن كريسماس بمكة) على ذلك الصراع الذي يبدو حادًا، ليس بين شرقٍ وغرب فقط، فلطالما كتبت روايات تتناول هذا الصراع وتخوض فيه، ولكن بين التدين والروحانية الذي تمثله "مكة" والمادية والتحرر الذي يمثله "كريسماس" والغرب بشكل عام.

نتعرف في الرواية على شابة نشأت في بلاد الغرب لأب وأم مسلمين "مريم"، وأمها "ميّادة" من جهة وخالها "حيدر"، وعلى الجانب الآخر العم "سعد" والجد المصاب بالزهايمر، تقرر مريم الذهاب إلى مكة، لأنها تريد أن تقدم تصميمًا معماريًا مقتبسًا من الأجواء الإسلامية، وتذلل لها كل الصعاب من أجل ذلك، وتذهب بين عشية وضحها، وتلتقي بعمها وجدها هناك فتشعر بألفة معهم رغم أنه لقاءها الأول بهم منذ كانت ذات ست أعوام، وهناك نتعرّف على بقية تفاصيل الحكايات والقصة.

كيف نتعاطف مع المشكلات؟ كيف يمكن أن نشعر بدرامية الأحداث؟ هل يكفي مثلاً أن يذكر الكاتب أن فلانًا قتل أم مات فجأة، أو بشكل بشع لكي نتعاطف معه؟! أم أن ما يحدث هو أن هناك شخصيات من حوله تتأثر به وتؤثر فينا من خلال عرضه لرد فعلهم، هذا ما يحدث عادة، وما يكتبون من أجله، أن يجعلونا نتعاطف، أو نأخذ موقفًا من القضية/المشكلة، ولكن أن يتم عرض كل المشكلات والقضايا الكبرى بشكل حيادي، فـ بنت حيدر تحمل سفاحًا من زميلها، وعمر يقتل ويبحثون عن جثته في المستشفيات حتى يأتيهم الخبر بعد أيام، وحادثة انتحار تحدث في الحرم المكي أثناء تواجدهم هناك، وغيرها من أحداث ومواقف ولكن يتم عرضها بشكل حيادي تمامًا!!

كل موقف من هذه المواقف، وكل حادثة من هذه الحوادث يمكن أن يُبنى عليها رواية بالكامل، ولكنها مرت مرور الكرام، ولم يتوقف الكاتب عند شيءٍ منها، إلا قليلاً عند مقتل عمر في بغداد وقضية القتل على الهوية. وكيف كانت طريقة عثورهم على جثته، وما إلى ذلك.

ربما يحسب للرواية في النهاية أنها اعتمدت على عدد من الحوارات الموفقة والكاشفة للتناقض بين جيلين مثلاً لاسيما في حوارات الأم والبنت (مريم وميّادة) وإن بقيت كل شخصية معبرة فقط عن فكرة جيلها، لا نجد عندها الحيرة أو التردد أو المشاعر الإنسانية العادية!

حكاية أخرى في الخلفية، تدور في بغداد، في وقت اجتياح التتار لها، وتلك المأساة الإنسانية والإسلامية الدامية، التي راح ضحيتها الآلاف من القتلى، وذلك من خلال شخصية "أحمد" عم المستنصر آخر خلفاء العباسيين، والذي حاول بصحبه خادمه إسحاق أن ينجو من المذبحة بمساعدة النصارى أني لم أجد مبررًا واضحًا لحضور لك الخيط التاريخي، إلا كونه مأساة دامية يود الكاتب تذكير القارئ بها، ثم يضع تبريرًا واهيًا في نهاية الرواية أن "الجد" كانت رسالته للدكتوراة حول "الخطط العسكرية التي اتبعها التتار للهجوم على بغداد"، وأنه كان مهتمًا بشخصية أحمد المستنصر!

وعلى طريقة "الكنز في نهاية الرحلة" تأتي الصفحات الأخيرة في الرواية بكل المعاني والأفكار المباشرة التي يحرص الكاتب على إيصالها للقارئ، والتي يبدو أنه أدرك أنها لم تصل خلال الرحلة بالطبع، فجاءت النهاية المباشرة التي يقول سعد عن أبيه:

(ربما كان أبي يرى أن أحمد المستنصر بالله يمثل الكثيرين منا، التمسك بالمجد الضائع وتصور أن بإمكاننا تحويل عجلة الزمن للخلف، الكثيرون منّا يعيشون في الماضي ويعتقدون أنهم يستطيعون أن يسحبوه للحاضر) الرواية 322

وغني عن الذكر أن مقابلة الجد بالخليفة الذي ينجو ثم يبحث عن استعادة الخلافة لايبدو منطقيًا وبعيد كل البعد عن منطق الأحداث، فالجد لم يكن له دور مؤثر، ولم يظهر أنه يسعى لا للمجد ولا للماضي ولا للحاضر، جاءت شخصيته رجل مصاب بالزهايمر يبكي على وفاة ابنه، ثم إن هذا الصراع أصلاً ليس هو أساس فكرة الرواية ولا محورها، ولا أعلم هل كان ذلك حاضر في ذهن الكاتب أو فكرته الأصلية ثم تحوّل عنها في التفاصيل التي تحدثت في أغلبها عن الصراع بين الدين والدنيا، أو بين الشرق والغرب، ومن هنا لا أعتقد أن نموذج اجتياح التتار للعالم الإسلامي وإسقاط الخلافة العباسية هي الشاهد التاريخي المثالي لكي نضعه هنا، ولا حتى بفكرة الخطط العسكرية أو نموذج الخليفة المهزوم! حضور الجزء التاريخي على هذا النحو يذكرني فقط في طرف منه برحلة "المخطوط" في رواية موت صغير لمحمد حسن علوان، مع الفارق الكبير بين الرحلتين، وكيف كانت الرحلة موظفة بشكل روائي متقن في رواية موت صغير رغم أنها أخذت فترة زمنية أطول، وكيف كانت على العكس غير منطقية في "كريسماس"

سيناريو متخيّل 

 وليسمح لي القارئ هنا بتصور سيناريو آخر للرواية بنفس شخصياتها/ أبطالها، بناءً على افتراض الكاتب الأخير، ماذا لو كان الجد هو بطل الرواية، وتكون الفكرة بدلاً من مريم ومشروعها، أن هذا الجد يريد أن يجمع شتات عائلته بالفعل، وأنه فكر أن يكون هذا الاجتماع في مكة، وأخذ الأمر فترة مشاورات بين أطراف الحكاية كلهم (بين الخال والعم والبنت وأمها) حتى ظهرت فكرة استخدام العمارة الإسلامية، واقتنعت مريم ولو على مضض بالفكرة، وذهبوا والتقوا فعلاً، ولكن بقيت بينهم بعض المشكلات التي تظهر في حواراتهم، وفي النهاية افترقوا أيضًا، ألم يكن ذلك تمثيلاً جيدًا ومقابلة منطقية بين أفكار الجد وشخصية الخليفة المستنصر، الذي يمكن أن يحضر أيضًا بالتوازي مع الحكاية، ولكن ستتشابه نهاية الاثنان في أن كل محاولاتهم ستبوء بالفشل!


في النهاية ليس لنا إلا التسليم بفكرة الكاتب، والذي يبدو على وعي جيد بأساليب الكتابة الروائية، ولديه قدرة واضحة على التعبير عن فكرته، ويبدو أيضًا في رواية مثل هذه أن القارئ يظل مهتمًا بمواصلة قراءتها حتى تتكشف له النهاية لاسيما أنها تحمل هدف الرواية بشكلٍ مباشر، ورغم تعدد شخصيات الرواية إلا أنهم في النهاية يمثلون صوتًا واحدًا متصالحًا مسالمًا، تنتهي مشكلاته وأزماته بمجرد التعبير عنها! ليس ثم صراع في الرواية، ولا تصاعد درامي للأحداث، هو خيط واحد وعدد من التفرعات البسيطة، حتى تنتهي الحكاية ، وحتى تصل مريم إلى قناعة مفادها أن:

العمارة تحوي القيم وتعبر عنها، فالإسلام ليس هوية معمارية تضاف إلى التصميم، بل هو السلام الداخلي الذي تشعر به للحظات، والتي تمثل الصلح مع النفس بعد سنوات من الفصام! (الرواية 317)

ربما يكون من المفيد في النهاية أن تقدم بعض الروايات مثل هذه القصص والحكايات على هذا الحو، وأن يبث فيها كاتب إسلامي أفكار هامة مثل قبول الآخر والحرية الشخصية في قالب روائي متماسك.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم