فاضل متين 

"استبصارٌ في الجمال والحقيقة".. "الشعر من حيث هو مسكناً للوجود" .. "الجماليات براهين الإله على نفسه"

راعني وأنا أعيد قراءة هذه الرواية للمرة الثالثة بعد قراءتين ملتبستين هاجس البحث عن جملة مركزةٍ تنهض بمهمة تلخيص جل الزخم الجمالي والشعري الذي احتضنته رواية «طفل فوق القمر» للروائي والشاعر الكُردي هيوا قادر في صياغة لغوية مكثفة. ربما لفقرٍ لغوي مني، أو رفضاً من الرواية نفسها في أسر ذاتها رهينة لأي قالب ضيق الدلالة والعنونة وجدتني مضطراً لأن أرمي حفنة من العناوين على مقدمة المقال أعلاه، عساها توفر بعضاً من المشاق الذي تفرضه اللغة عليّ.
ولأنني أخذتُ بعوالم هذه الرواية الصغيرة الحجم«145 ص» الزاخرة بالمشاهدات الجمالية بعيني أديبٍ لا تخطأن تلقف التدفق الشعري المندلق من الكائنات المادية وما ورائها، ألفيتني أعيد قراءتها مراراً بلا أدنى شعورٍ بالسأم ومثيله. وقبل أن ألجّ في عوالم الرواية سأترك هذه الجملة التشبيهية الشعرية الرقيقة كمدخلٍ لها.
« نظرت لحرف الميم الذي التقطته، كان يشبه رأس عصفورٍة صغيرة، وقد حنت رأسها لتخبرنا أنها رحلت للأبد ولن تتمكن من التحليق مرة أخرى».

طفلٌ في مقتبل العمر يشده غموض مستأجرٍ لإحدى بيوت والده، يتمتع هذا الرجل الذي يدعى السيد محسن بحس فني بديع، إذ يجيد النقش على الألواح، ورسم المنمنمات بصمتٍ يزيده غموضاً وعمقاً، مما يشعل الفضول في عقل الطفل لاكتشاف غموضه، واستكناه أسرار مهنته، وتغدو فيما بعد تلك القوة المغناطيسية التي جذبته لعوالم سيد محسن سبباً لتعلقه بعوالم التخطيط، وفضاء الترقين، ويقود مسيرة الرجل الغامض بعد أن مات بشكلٍ غامض ككل مبدعٍ كردي يغادر بصمت نحو الأبدية وتبقى حقيقته رهن التدليس والتحوير.
غير أن الطفل يكبر عمراً وخبرةٍ على مر السنين ويكبر معه هاجس البحث عن حقيقة الجمال، وحقيقة الأديان والإيمان، فهو على خلاف السيد محسن المؤمن لم يستقر على أي مذهب، ولم تقنعه أية محاولة لتأطير الحياة برؤى دينية، وتجواله في الجوامع والأديرة لم يكن إلا لمطاردة الجماليات البصرية المنقوشة على جدرانها، ففي حين كان المصلون يبحثون عن رضا إلهي بصلاواتهم، كان هو يبحث عن ترضية الجانب الفني الجائع في باطنه، يتقرّى بعينيه المذهولتين الخطوط والرقون وموسيقاهما اللامرئية المنقوشة على الجدران. لكن ثمة صوتاً غامضاً كان يدعوه للبحث عن السر المتواري عنه، السر الجمالي الذي أودعه الله في الموجودات، وفي النهاية وفي إحدى جولاته داخل الجامع يتعثر بإحدى المخطوطات من ضمنها كشكول عتيق من تأليف فنان غريب يدعى يارولي، تلك اللحظة يُظهر السر جزءًا من خيطه، فالكشكول كان بمثابة نار بروميثيوس التي انتظره طويلاً ليمده بالمعرفة، وهذه إشارة من هيوا عبد القادر أن من تشغله سر المعرفة ويلاحقه سيحصل على المفتاح الذي يقوده إلى بوابة الأسرار. ومع فتح الكشكول ندخل إلى فضاء آخر، سيرة فنان نقل لنا تجربته التصوفية المغرقة في المشاهدات الجمالية المثقلة بالشعر، مع طفلٍ معاق دبرت له الأقدار ليكون سبباً لتقليب حياته رأساً على عقب ويغيّر زاوية نظرته للعالم والحياة والموت والإله.

كان يارولي مدون الكشكول فناناً وشاعراً شبه متصوف ينوي مغادرة كردستان جهة مدينة سندج، قصد اكمال مشروعه في جمع وتحقيق أشعار الحكيم الكردي المعروف محوي، وعلى الحدود بين كردستان العراق ونظيرتها كردستان إيران تحدث بلبلة بين المهربين ورجال آخرين مما يضطر أحد المهربين يدعى "رازو» إلى توديع طفل معاق في الخامسة عند يارولي يسمى «سياه» قبل أن يتجه صوب الموت على يد أحد الرجال بداعي الشرف، وهنا تبدأ رحلة يارولي مع الطفل إذ يضطر على تبنيه ويستقران في مكان مقفر لا يجاورهما غير مؤذنٍ يغادر الحياة بعد عدة سنوات من المقابلات القليلة بينهما، وبما أن الطفل عاجرٌ عن النطق والحركة تنشأ لغة التخاطر بينهما، لغة الوحي الذي يتبادله الأنبياء مع جبرائيل، ويبدأ يارولي بتدوين آيات الجمال من وحي المناقشات الصامتة التي تحدث بينهما ومن مشاهداتهما المحفوفة بالرؤى كالكشف الذي يحدث لدى المتصوفة، يخلقان عوالم من السحر والموسيقى والفن، يسافران خيالياً نحو جزر بعيدة، نحو الإنسان المختفي في الإنسان، وتاريخه الدموي، وعذاباته منذ الأزل، وبخيال الشعراء يبنيان الصروح الجمالية خارج ذاتهما، داخل ذاتهما، لا يعكر صفوهما إلا الحقيقة التي راودت سياه المنتظر كل تلك السنين والده رازو، وفي نهاية المطاف لفرط حزنه وخيبته يموت الطفل ككل الذين يرحلون باسرارٍ مخفية عنهم، ولا يكتشف حقيقة أن رازو المهرب الذي قبل أن يموت وأشفق عليه وسلمه ليارولي ليس إلا قاتل أبيه، لكن الكاتب لا يكتفي هنا فهو في النهاية ينقلنا إلى رحلة خيالية، يلتقي سياه برازو ما بعد الموت وتحدث نقاشات وجودية وميتافيزيقية بينهما، من أجواء الحوار الذي حدث بينهما، يقول رازو لسياه عن ماهية الرب والتي تشي بنزعة حلولية( حلول الذات الإلهية في الوجود) : « هنا لن تميز هؤلاء من الله، لأننا جميعاً لسنا سوى أجزاء منه وكلنا مع بعض نشكل صورة الرب الحقيقية».
هذا بالنسبة إلى حبكة الرواية فماذا عن دلالاتها الرمزية، وصوت الفلسفة فيها، وموقف المؤلف من الوجود؟!
حاصرتني عدة أسئلة وأنا أتتبع خط الرواية ومجرياتها.
لماذا اختار الكاتب طفلاً معاقاً ليرسم لنا العوالم الخيالية الساحرة، ويجعلنا ننظر إلى الوجود من داخل عيني طفل كأنها اليوتيوبا الفاضلة؟
ألأن نظرة الطفل صافية لا تشوبها دنس المعرفة المكتسبة، وإن الإله يتبدى كابتسامة على شفاهه، وأن اكتشاف حقيقة الحياة وسر الوجود لا يمكن ايجادهما على أي أرض ولا في ثورة ولا داخل أي دين، وإن الله والجمال والفن يستقرون داخل قلب الطفل، وللمحافظة على الجمال والإلهي الذي فينا يتطلب منا الحفاظ على الطفل الذي بداخلنا ؟!

ولما مات الطفل ولم يظهر له السر إلا بعد أن مات؟
هل هذه إشارة أن الحقيقة لا يمكن اكتشافها، وإن الانسان ينتظر عبثاً المخلّص(غودو) الذي لن يأتي مطلقاً وما صبرنا سوى عيش في الوهم بالوهم؟
سؤال آخر يخص المؤلف ويجعلني أسقط شخصية يارولي عليه: هل يؤمن بالحياة ما بعد الموت، ويعتقد أن اللثام لا يماط عن المخفيات الأسرار إلا خلف الأبدية! إذ تجلت بعض الحقائق حينما دخلا (سياه ورازو) في حوارات ميتافيزيقية وفلسفية.
ثم لما لجأ إلى الخيال الشعري لنظم عوالمه على لسان يارولي، والشعر لتفسير الوجود؟ هل إيماناً منه بأن الوجود خارج الشعر محض كتلة بلا روح؟

يمكنني أن أوجز الرواية بأنها رواية الشك واليقين، والبحث عن السعادة، عن الله خارج الدين وأطره، عن الحقيقة الغائبة أبداً، رواية تنشد التصوف الأرضي، والدين بروحانياته خارج الشريعة، تدعونا إلى تتبع العين الداخلية المتصلة بالقلب، إلى إزاحة الغشاء الذي يعمينا عن الجماليات المكنونة داخل الشعر والطبيعة والخيال، داخل قلب الطفل وبين كلمات الشعراء الذين يجعلون الوجود أجمل رغم عذاباتهم، والحياة أنقى بعيداً عن التشوهات التي تفرزها خطابات الكراهية الدينية وكذب الثورات.

« طفل فوق القمر» رواية الشعر الصوفي بإمتياز، وزادها شاعرية أنها كتبت بلغة الأنا المتكلم. إن الفضاء الشعري بالنسبة لهيوا هو الطبيعة نفسها والوجود بأشمله، وبعيداً عن الدلالات الجلية فيها، سأورد بعضاً من المقتطفات التي تشي ببراعة الكاتب الشعرية، وأيضاً بشاعرية المترجمة خيرية شوانو التي نقلت لنا النص من الكردية السورانية بحذاقة الشاعر المترجم.
«تلك الليلة كان رازو يتحدث فتتوقف الرياح وتصمت أغصان اشجار الجوز، وحين أتحدث أنا يهب الريح ويختفي صوتي في حفيف تلك الأغصان، يتحدث هو بصوت خافت والريح تصمت واصرخ أنا وصوتي يختفي».
«لم أعرف ما الذي أفعله بين السماء والارض!
لنفسي أقول: لو كانت الأرض هي دار المعاش فلماذا أنا في السماء، وإن كانت دار القناء فماذا أفعل في السماء»
إن هيوا كما أرى أديب متبحر في المعرفة والشعر والفن، مدموغ بنزعة النبش في الجماليات، مشغول بالبحث في الماهيات وأسئلة البشر، شاعرٌ الطبيعة الجوّال، يشعرن الطبيعة، ويغرز الطبيعة في الشعر، متصوف ملحد أو بالأصح متصوف أفقي أرضي، مؤمنٌ بطاقة الإنسان بعيداً عن صفاقة المتدينين السماويين العموديين الزاهدين عن طاقاتهم، وملحدٌ يكتب بلغة التصوف والروحانيات، لغة ابن عربي، لغة محوي وبيراميرد ونالي
« لم أشأ أن أصبح صوفياً مؤمناً بل لقد أحببت التصوف خارج الإيمان».
«تلك الليلة كنت وحيداً أحترق وأناجي الوجود، أحفر وأبكي بحزن، تتعمق وحدتي ويتمدد الإلحاد بداخلي مع تلك الحفرة التي كانت تتوسع أكثر.......... أبكي وأردد بلا جدوى أسئلة البشر وأصرخ بدلاً عنهم في هذه الحفرة»

*هيوا قادر: شاعر وروائي ومترجم كردي، له عدة دواوين شعرية وعدداً من الروايات والترجمات.
*‏خيرية شوانو: كاتبة ومترجمة كردية، تترجم من الكردية إلى العربية والعكس.

عن الحوار المتمدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم