في البداية يجب أن نؤكد أنه من الصعب أن يتم اختصار هذه الرواية، أو إيجاز فكرتها في سطورٍ قليلة، فالرواية التي يشير عنوانها بوضوح إلى اسم رجل الأعمال اليوناني ـ الذي ربما يجهل اسمه القراء اليوم ــ لا تكتفي عند عرض طرفٍ من سيرة حياة ذلك الرجل التي تبدو بالفعل شيقة وملهمة، ولكنها تنتقل إلى عرض أطراف من حياة المصريين في فترة تاريخية هامة من تاريخهم، تمتد من قبل الحرب العالمية الأولى إلى ما بعد ثورة يوليو 1952، وذلك من خلال طبقات البسطاء والعمال من جهة وما طرأ من تغيرات اجتماعية جعلت عددًا من التجار هم صفوة المجتمع، في وقتٍ كانت فيه مصر ملاذًا آمنًا للكثير من الجاليات الغربية، بدؤوا حياتهم فيها ووصلوا إلى قمة النفوذ والثراء في سنواتٍ قليلة.

تبدو البراعة الحقيقة في الرواية في قدرة الكاتبة على تقمص شخصيات روايتها، على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم وثقافتهم، وقدرتها على التعبير عن دواخل نفسياتهم وتقليب حكاياتهم على كل وجوهها، لم يعد تيوخاري كوتسيكا مجرد رجل أعمال يوناني أنشأ مصنعًا شهيرًا، بل غدا بطلاً في الرواية من لحمٍ ودم، نتتبع أخباره منذ كان شابًا يرى في الإسكندرية مدينة أحلامه بعد ترك اليونان، بين أحلام بناء مجده وغرامه بالفتاة التي أحبها "أنجليكي"، وحتى أصبح واحدًا من أهم التجار في القاهرة، ووافته المنية وقد أصح ملء السمع والبصر بمصنع الكحول الذي يحمل اسمه .. وبالتوازي مع قصته نتعرّف على أسرة واحدٍ من البسطاء المهمشين، الرجل المصري الذي صادف أن كان عاملاً في هذا المصنع، عبد العليم وحكاية عائلته أو نساء عائلته على وجه التحديد بدءًا بشوقة وصابرة حتى مزاجات ووداد وامتثال، وكل ما تمثله كل واحدةٍ منهم من عالم خاصٍ بها لا يشبه الأخرى.

وبين هذين العالمين تتفنن الكاتبة في رصد لحظات الحياة والتقاط المواقف الشاعرية سواء كانت عاطفية حسية تنبض بالمتعة والشبق بين المتحابين، أوتحمل الضغينة والكراهية والرغبة في التشفي من الخصوم والأعداء، أو تسرح بالخيال وتتأمل الحياة وتقلباتها عند العائلتين، وبين هذا وذاك ترصد مواطن الجمال كما يراها كل واحدٍ منهم، نرى ذلك مثلاً في حديثها عمّا تمثله "أم كلثوم" للرجل البسيط "عبد العليم":

(في أعماقه هو مؤمِنٌ بأن أم كلثوم هي العالَم الجديد، الواعد بعد اليأس، البَعثُ بعد طول الرقاد… قُدرَتُها على أداء أصعب الألحان والكلمات وتطويعها، يُعطي للحالمين أملًا أنه مهما عَسُرَت حياتهم وتكاثرت همومهم سوف يتمكَّنون من الفوز في النهاية… ‫الجمال هو خير وسيلة لمحاربة القبح والظلم والتفاهة.

‫ أضفى عشق أم كلثوم حيويَّةً وصفاءً وجَمالًا على حياة الصَّانِع الماهر، لن يكتشف أحدٌ أن زجاجات البيرة التي تخرج من تحت يدَيْ عبد العليم مشبعة بصوت أم كلثوم ..)

وإذا كانت أم كلثوم ملهمة الرجل البسيط عبد العليم الذي يمثل الرجل المصري بكل تناقضاته وصراعاته وأفكاره، فإن الأوبرا تستوقف رجل الأعمال بولي أخو كوتسيكا وشريكه، والذي اختلف عنه في كثيرٍ من تفاصيل حياته، ولكنه شاركه الثراء والنفوذ، وكان يبحث عن الجمال بطريقته، يفكر أثناء مشاهدة أحد العروض:

(يا لهؤلاء الحمقى، الذين يتركون كل هذا الجمال الجالس إلى جانبهم ليُسلِموا أسماعهم وأبصارهم إلى عرض سخيف كئيب، لَطالما كرهتُ الأوبرا ولم أجد في تلك الأصوات التي تتبارى في العُلُوِّ والإزعاج ما يجعل هؤلاء المجانين يولونها اهتمامهم وحُبَّهم، إن دندنة عجوز على شاطئ كاريستو وهي تصنع السِّلال، بحشرجة صوتها وبُحَّته الخَشِنة وأنفاسها المتقطِّعة لَهِيَ أجمل وأَشَدُّ أثرًا في نفسي من هذا الصراخ، إن غانِيَةً نحيلةً من أثر الجوع تمسك بالتمبورين تشدو وترقص في حانة صغيرة بإحدى الأَزِقَّة في بلادي بالتأكيد أروع من تلك البدينة ذات الوجه والصوت المنتفِخَيْن… حتى الغناء العثمانلي وإن كنتُ أبغضُ التُّركَ أشدَّ البُغضِ إلَّا أن المصريين جعلوا هذا الغناء عذبًا وبديعًا..)

شخصيات الرواية 

بالرغم من أن الرواية تحمل اسم بطلها الرجل الثري ذلك "كوتسيكا" وعالمه، إلا أنها تحفل بالشخصيات النسائية شديدة الثراء في عالمها وتفاصيلها، بل هي تبدأ بحكاية شوقة، تلك الحكاية الغريبة والمؤثرة في الوقت نفسه ولحظات ولادة صابرة/ صبر الجميل لابنتها ست أبوها ثم الولد المنتظر طلعت، وترسم ببراعة ودقة حالات الغيرة والحقد التي تعمي القلوب وتنهي حياة الناس فيما فعلته شوقية مع الفتاة المغلوبة على أمرها أميرة، وكيف تغلبت وداد على ما حدث لها، وأصبحت مسالمة هادئة، وكيف استطاعت "ست أبوها" أن تتغلب على قهر أمها وتحقق نفسها رغمًا عن الجميع، كما ترسم على الجانب الآخر أيضًا عالم نساء الطبقات الراقية وذلك الصراع المكتوم الذي نشأ بين كيكي وسيبيل زوجات الأخوين تيوخاري وبولي كوتسيكا، وكيف لم يهدأ للأخيرة البال حتى أصبح ابنها وريثًا لكل أملاك عمه وعالمه، في الوقت الذي رسمت فيه حيرة النجمة الأمريكية بيرل وايت بين مشاعر الحب الضاربة في أعماقها ورغبتها في الحياة بعيدًا عن كل هذا البريق الخادع للشهرة!

مفاجآت الرواية 

لأن إعداد الرواية يتطلب الكثير منالبحث والقراءة والتحضير، فإن رواية كوتسيكا لم تقتصر، كما سيلحظ القارئ، على عالم ذلك الرجل وقصة حياته، ولكنها استطاعت أن تجمع كل ما وصلت إليه من معلومات وأخبار في تلك الفترة التاريخية الهامة، فقد قرأت غادة العبسي مذكرات النجمة السينمائية بيرل وايت، وعرفت أن ثمة علاقة عاطفية ربطتها "بتيودور الثاني" ابن بولي ووريث كوتسيكا فيما بعد في المصنع، والذي هام عشقًا بها رغم فارق السن بينهما، وأصبحت حكايتهم على كل لسان، بين القاهرة وباريس، فحضرت هذه النجمة العالمية بشخصيتها وأفكارها، ورغم أن حكايتهم جاءت متأخرة في الرواية، إلا أنها لاشك ستبقى في ذهن القارئ طويلاً.

ويأتي فصل آخر بعنوان "كيف تصبح مليونيرا؟" وليسمح لي القارئ باعتبار هذا الفصل بمثابة هدية الرواية، والذي جاء رغم مفاجئته متماشيًا مع نسيج الرواية وبنيانها، وتتحدث فيه عن الرجل الذي سينتهي إليه أمر شركة الكحول المصري، وفيه إشارة جديدة من الكاتبة لنموذج آخر، يمكن أن تقام حوله رواية أخرى، فها هي سيرة أحمد عبود باشا تحمل الكثير من الثراء والتشويق لرجل أعمالٍ مصري درس الهندسة في بريطانيا وأنشأ عددًا من شركات السفن والكباري، وانتهى به الأمر رئيسًا للنادي الأهلي عام 1946، تخصص له غادة العبسي فصلاً قصيرًا في الرواية، وتعرض سيرة حياته بطريقة ذكية وشيق، وترسم شخصيته في صفحاتٍ قليلة ولكنها دالة جدًا على براعة الكتابة والتقاط التفاصيل المهمة من جهة، وعلى أهمية هذا الرجل وثراء عالمه من جهة أخرى.

شخصياتٌ متعددة وعالم ثري جذاب، ومصر أخرى، نفتقدها كثيرًا في عالم اليوم، بل ربما لم نكن نعرف عنها الكثير، حيث الجالية اليونانية تسير جنبًا إلى جنب مع اليهودية والفرنسية، عالم جميل يذكرنا برائعة "زيزينيا" للكاتب المصري الجميل أسامة أنور عكاشة، لاسيما أن الرواية تبدأ في الإسكندرية أيضًا ولكنها تحمل بصمة خاصة ورؤية جمالية وفنية مختلفة، إلا أن براعة الرسم ودقة التصوير تجعل القارئ مستمتعًا كأنما يشاهد أبطال الرواية في فيلم سينمائي، أو مسلسل شيق من عدة حلقات.

رواية كوتسيكا لغادة العبسي صادرة عن مركز المحروسة للنشر بالقاهرة عام 2021

غادة العبسي روائية وطبيبة مصرية، حصلت على المركز الأول في مسابقة قصور الثقافة عن مجموعتها القصصية "أولاد الحور"، وجائزة أخبار الأدب عن روايتها "الإسكافي الأخضر" عام 2016، وصلت روايتها "ليلة يلدا" للقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للآداب عام 2020.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم