لو أردنا أن نصف هذا العمل بجملة واحدة فلا يسعنا القول إلا أنه صوت كل من يأن في صمت والمهجرين داخل وطنهم، فهو عمل يجمع بين ثناياه تحليلا سريعا ودقيقا لأهم الاحداث التي عصفت بالبلد منذ بداية الازمة الامنية تسعينيات القرن الماضي إلى غاية الحراك الشعبي والدعوة إلى التغيير السياسي، وما شهده العالم من أزمة وبائية صحية، مسلطا بذلك الضوء على بعض الظواهر والانحرافات التي تفشت في المجتمع...

فقد حاول الكاتب بلغة بسيطة ووصف راق وحكي سلس أن يكشف لنا عمق هذه الازمة التي عاشها الوطن ولا يزال، حيث تدور أحداث الرواية بين القرى الجبيلة الريفية (جنّاون/ آيث يعلى/ تالعلام/ تيلة/ قنزات / بني وثيلان...) شمال ولاية سطيف (الجزائر)، وصولا إلى عاصمة البلد، وبعض عواصم الدول الغربية، خاصة بريطانيا..

تبدأ أحداث الرواية من فترة تسعينات القرن العشرين، أين شهدت هذه القرى مواجهات دامية بين السلطات الامنية والجماعات المسلحة، الأمر الذي أدى إلى فرار أهالي هذه المنطقة الريفية المسالمة البدوية من قراهم وبساتينهم إلى المدن الكبرى، ممزقة بذلك البنية والنسيج الاجتماعيين، وتباين الرؤى بين الحياة الريفية البسيطة وأغاني الأجداد والحياة المدنية المعقدة وسرعة الأحداث، لكن هذا التباين لا يُثني من عزيمة أبطال الرواية (العربي/ الصالح/ الصادق/ عماد/ نسيم...) من محاولتهم الفرار بذواتهم إلى عالم أفضل وحياة ارحب وحظ أوفر، مختارين بذلك طريق الهجرة إلى بريطانيا طلبا في العلم الوافي وتكوين جيد...

ومن جهة أخرى ففي ظل تسارع الأمم لتطوير البحث العملي والاعتناء بالعلم ورجالاته واحتضانهم في البلدان المتقدمة، نجد أن البلد بعد الازمة الامنية والمصالحة الوطنية ليس أكثر استقرار وراقيا وانفتاحا، وهذا ما تكشفه أحداث الرواية، فبمجرد عودة أبطال الرواية إلى أرض الوطن واعتزامهم استغلال وتوظيف ما اكتسبوه من علم وطرق بحث متطورة اصطدموا بالتهميش القاسي والاقصاء المرّ، نتيجة عدم غياب الكفاءات العلمية وتهجيرهم وفساد المال العام، وغياب التخطيط الاستراتيجي ...

كما تعرض الكاتب في الفصول الأخيرة من عمله بألم وحزن عميقين إلى الواقع الذي آل إليه العمل الصحفي في البلد، حيث أضحت السلطة الرابعة تعوزها الاحترافية والنوعية وتعاني من البيروقراطية الجامدة، مكبلة بقيود المحسوبية والتوجهات الضيقة، ما جعلها تحيد عن العمل الحرّ وخدمة الحقيقة... كاشفا بذلك على أن الانفتاح الاعلامي المزعوم ما هو إلا ذر للرماد في العيون..

وخلاصة القول أن هذا العمل الأدبي النقدي بامتياز جدير بالقراءة والعناية، فهو يقدم لنا الواقع بصورة فنية لا تخلو من الاثارة والتشويق إلى ما ستؤول إليه الأحدث، أين تغدو الأسئلة أهم من الاجوبة، وينجلي أرق الماضي وقلق الحاضر وسؤال المستقبل في الأفق...

* رواية "خريف تيلّة" دار ميم للنشر، الجزائر ط 1، 2021. 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم