من حسن حظ القارئ العربي أن تكون الروائية السورية بنت مدينة اللاذقية على ساحل البحر الأبيض المتوسط طبيبة عيون وممارسة لاختصاصها في أحد المشافي الحكومية حيث رأتْ ما لا يراه غيرها. وهي، أي هيفاء بيطار، تعرف حكاية "زرقاء اليمامة" بكل تأكيد. وإذا أردت أن تصف شخصاً نال حظاً من قوة البصر، فأنت ستقول: إنه مثل زرقاء اليمامة. ولكن، إلى أية درجة كان بصر الزرقاء قوياً؟ وهل كان ذلك حقيقياً؟ فالزرقاء امرأة عربية استوطنت اليمامة، وقيل إنها كانت ترى الشخص على بعد مسيرة ثلاثة أيام، وإن عينيها لونهما أزرق، فاشتهرت بزرقة عينيها وحدة بصرها، حتى أن قومها كانوا يستعينون بها لتحذرهم من الغزاة.

ومع ذلك، فإن التدقيق في قصة زرقاء اليمامة يجعلنا نكتشف أن ميزتها الأساسية لم تكن قوة البصر، بل البصيرة. إذ يروى عنها أنها حذرت قومها من شجر يسير، وكان الأعداء قد علموا بقوة بصرها فقطعوا الأشجار واستتروا بها حتى لا تكشفهم، فلما أخبرت زرقاء قومها بأن هناك شجراً يسير لم يصدقوها وسخروا منها، فلما أطبق أعداؤهم عليهم وباغتوهم أدركوا صدق زرقاء، ولكن بعد فوات الأوان.

هيفاء بيطار عندها تلك البصيرة التي امتلكتها زرقاء اليمامة ومن خلالها استطاعت سبر غور واقع حياتنا المعتم وتسليط بؤرة ضوء عليه وتشريحه وكأنها في "غرفة عمليات" ومن ثمِّ رصدته في عدد من الروايات والمجموعات القصصية والمقالات والتي كشت فيها عورات مجتمع حاول سترها بورق التين، ولكن الشمس لا تُحجب بغربال كما يُقال، فسواء كانت أبصارنا قوية مثل زرقاء اليمامة، أو كنا ممن يعانون من عيب في البصر، علينا أن نتذكر بأن البصيرة والقدرة على التحليل هي النقطة الأهم، فكثيراً ما رأت البصيرة ما عجز عن رؤيته البصر. وها أنا ألمح الشاعر المصري الكبير "أمل دنقل" يبكي بين يدي زرقاء اليمامة على تخوم الشام، والشام شام لكل زمان كما قال محمود درويش، وكأنني بأمل دنقل "يشوف" ما لم نستطع نحن في الوقت المناسب أن "نشوفه" وكانت هيفاء بيطار "أبكر" منا في رؤيته لأنها كصاحبتها زرقاء اليمامة "تشوف" بعيداً. يقول الشاعر:


أيتها العرافة المقدَّسةْ

جئتُ إليك مثخناً بالطعنات والدماءْ

أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة

منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ

أسأل يا زرقاءْ

عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء

عن ساعدي المقطوع وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة

عن صور الأطفال في الخوذات ملقاةً على الصحراء

عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء

فيثقب الرصاصُ رأسَه في لحظة الملامسة

عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء

أسأل يا زرقاء

عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدارْ

عن صرخة المرأة بين السَّبي والفرارْ

كيف حملتُ العار

ثم مشيتُ دون أن أقتل نفسي دون أن أنهار

ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة


هيفاء بيطار روائية سورية وطبيبة عيون وشريدة الآن في باريس، وعندها -في الحقيقة-بحر اللاذقية وأهله أجمل من فردوس مفقود. هل تطابقت اللاذقية مع باريس؟ هل تشابهتا؟ لم تعد أي منهما ملاذها، باريس قدمت لها التسكع والتفكير والأفق الحر والكتابة والوحدة المثالية، أما اللاذقية فقدمت لها حياة بائسة وصعبة ولكن زمنها مشحون بالحنان، الأمكنة أرواح والوجوه أرواح، وهي لا تستطيع أن تعيش خارج مدينتها.

وها أنت تسأل: لِمَ هي شريدة في مربط خيل العرب؟ وتريد جواباً. حسناً يا سيدي، لأنها -بكل بساطة- كانت وما زالت جسورة في قول رأيها من خلال رواياتها وقصصها ومقالاتها وفي حياتها، فتعبت وأتعبت معها الخلق. تعال معي إلى روايتها التي كتبتها في باريس وصدرت طبعتها الأولى 2017 عن دار الاختلاف في الجزائر ومنشورات ضفاف قي بيروت ودار الأمان في الرباط بعنوان "الشحادة".

يقرأ مالك داغستاني في الصفحة 33 وهو يُقدِّم الرواية في برنامج متلفز: أين قرأتْ تلك العبارة التي جعلت قلبها ينخلع من مكانه "في اليابان يصفون سقوط الأزهار بأنه رؤوس تُقطع" وفي سورية تُقطع الرؤوس فعلاً من قِبل منظمات إرهابية تتقنع بالدين، وعلى رأسها داعش، ويموت شباب وشابات، رجال ونساء وأطفال في معتقلات النظام. وعليها ان تعيش يوماً طبيعياً على هذه الخلفية الإجرامية المروعة.

https://www.youtube.com/watch?v=1AJLweUiNF4

يقول مالك داغستاني: رواية "الشحادة" للأديبة السورية هيفاء بيطار ليست رواية بالمعنى التقليدي للرواية وهذا ما يرد على لسان بطلتها هي كتابة أشبه ما تكون بصورة موازية للحدث حيث يستحيل كتابة رواية متماسكة في ظل التشظي والضياع كما تقول. الرواية تكتنف نصاً سيَرياً على نحو ما دون أن تتطابق معه، نصاً نقل ورصد بشكل خاص مشاعر وآراء الكاتبة تجاه الحدث السوري، معبراً عن موقفها العاطفي والوجداني وحتى السياسي من الثورة السورية وما تلاها. هيفاء بيطار دونت نصها عندما كانت تعيش فترة محددة ولكنها إجبارية في باريس، وتركت للنص أن يقودها ويقود نفسه إلى شكله النهائي.

من الرواية:

رن هاتفها فانتفضت سعيدة بأن ثمة من سيؤنسها في وحدتها، أتاها صوت صديقة لها منهارة تماماً من الفزع إذ كان منزلها قرب مبنى أحد فروع المخابرات، ويبدو أن الاحتفالات هناك تكون في أوجها، والسخاء بالرصاص بلا حدود، الدولة السورية كريمة بالرصاص والبراميل المتفجرة.

من أين أتتها القوة لتهدئ من ذعر صديقتها المنهارة التي كانت تختبئ في ممر المطبخ خوفاً من رصاص يدخل من نافذة الصالون أو غرفة النوم! ربما ضعف صديقتها ولَّدَ في نفسها القوة. اتفقتا على تبادل الاتصال كل نصف ساعة حتى يهدأ أزيز الرصاص.

وعند الخامسة فجراً كانت الطاقة النفسية لصديقتها ولها في حالة انهيار تام ونفاد، شربت كأساً من اليانسون الكثيف والمغلي كثيراً، وابتلعت حبة "ليكزوتان" ونامت وهي تهذي، وكلتا أذنيها تطن بأزيز الرصاص، وحين أفاقت باكراً سمعت من نشرة الأخبار أن الانقلاب ضد أردوغان فشل، وأن ثلاثة سوريين ماتوا من الرصاص الاحتفالي الابتهاجي بخبر الانقلاب ضد أردوغان.

الأدب عند هيفاء بيطار وسيلة تفكير، والكاتب عندها لا يتمتع فقط بالقدرة على ملاحظة تفاصيل الحياة بألوانها وروائحها وكلماتها المميزة ودقائقها، بل بالتفكير المضني في مغزى الحياة. تلك هي قوة كلمات الأديبة السورية هيفاء بيطار. فعندما نقرأ كلماتها يعترينا الخجل من أنفسنا، وهذه أبرز سمة من سمات الكاتب الناجح، فهي تُجبرنا على أن نستحي، وتقضي على كافة محاولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي.

1 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم