" في التمهيد، في البدايات الاولى، كان يحلُ على تلك البقاع من يوصف بأنه الشيخ الزاهد، كان يأتي في احد فصول العام، لا أحد يعلم من أين والى أين وكل ما هنالك أنه كان يذكر بتخوم الصحراء الزاحفة وكلما اشتدت الصراعات زحفت تخوم الصحراء فأما أن تقوم مدينة فاضلة هنا عند تلك التخوم أو أن الصحاري سوف تزحف، سوف تذرُ رمالها مع الليل حتى إذا طلع الصباح أفاق القوم فإذا دروبهم مغلقة بكتل الرمل وأحلامهم العظيمة ودفاتر مهامهم قد ابتلعها عصف الرمال حتى بدأ الزحف نحوهم... " ص٣

هذه السطور يستهل بها الروائي طاهر علوان روايته الجديدة "حياة ". ربما هو تنبيه يستقز به القارئ في مدخل الرواية. أو هو استهلال يستوقف به القارئ قبل الولوج في عالم لابد أن يستعدّ له!.

على غير المألوف في الروايات التركيبية أو في السردية العامة يخوض النص هنا في سردية أدبية فنية تحليلية. وهذا هو شأن طاهر علوان منذ صدور مجموعة القصصية القصيرة في العام ١٩٩٣ "الصعود الى القمر" . تجد في كتاباته "شيئا مما نريده أن يكون في القصة العراقية، نبض الحياة الحقة، وخيال يتجاوز الأشياء، ولكنه في تجاوزه يعانق الحياة في شفافية وبهاء آسر " على حد وصف الناقد والاكاديمي وشيخ مؤرخي القصة العراقية الراحل الدكتور عبد الاله احمد .

ويشكل العنوان لدى طاهر علوان مضمون شكلي، مثلما هو نصه في شكله ومضمونه، متعالق مع النص في جميع أعماله "صعود القمر، وعم يتساءلون ، المجموعة القصصية الثانية الصادرة في العام ١٩٩٨، و رواية الكائن الافتراضي في العام ٢٠٠٥.

هي عناوين تشكل ظل نصوصه، وتشكل عتبة لها. إذ "يبنى العنوان على الإثارة والتركيز، و أن يكون العنوان نوعيا يلتزم بالنص الذي يعنونه".

في روايته الجديدة "حياة" المنجزة في ١٤٤ صفحة قَطَعَ طاهر علوان رواية على ستة فصول معنونة في ستة عناوين هي: " أحمر أزرق ودكة العظماء وحياة رزان الحديد وليلة زرقاء بامتياز وأخوة شهلا وعرض ليلة الأرواح". وكما الِفناهُ في عناوين كتبه، لا تفترق عناوين فصوله عن مضامينها لصيقة بها بشدة، كما هي لصيقة بمبنى النص بشدة متناهية.

منذ البداية كانت نذر الشيخ الزاهد.. ومع بداية الفصل الاول أحمر ازرق نسى القوم ما انذرهم شيخهم وصار أمرهم إلى الفرقة والضياع.

في هذا الفصل غرس الروائي بذرة العقدة او المأزق المحيط بالاطراف، وحدد بذلك طرفي الصراع الذي سرى بنا في مجمل الرواية حتى منتهاها.. لتنتهي في فصل "عرض ليلة الارواح " وكان المنتهى أو النهاية أجمل وأعذب من بدايتها لحشد مكامن الابداع والخيال في صياغة الحل!

"في المشهد البعيد كانت هناك صبغتان من الاحمر والازرق تلوّنان الجدران لابقصد التناغم والحس الجمالي بل بقصد الخلاف والتناقض والمنافسة. مثل بيضة منقسمة، كانت هي الحياة هناك قائمة على فكرة الصراع بين لونين بعد أن نسى القوم كلمة الشيخ الزاهد وانشغلوا بانقساماتهم الجميلة ...." ص٤ بهذا الشكل بدت محلة الرمل مكان السرد المستقيم، تروى على لسان الحارث بن غياث الحميد، احد ابطال الرواية المحوري الذي نأى بنفسه عن حمأة الصراع السياسي الدائر بين الحمر والازرق. اذ للحمر برئآسة جسار الحديد يؤول ميدان الرمل والمنافع السياسية، وللزرق برئآسة صبيح الازرقي يؤول تهريب كل ما تطال ايديهم من الخيرات وجني ثمارها..

"اسمعني يا جسار جيدا وبلا كثرة كلام لا معنى له نتفق أن لا تتدخل في عملي ولا اتدخل في عملك، لا تضايقني ولا اضايقك. لأنك اذا واصلت هذه العمليات المزعجة فسوف نقوم بعمليات اكثر ازعاجا لك" ص٨٠.

إن جمال الصياغة في تجسيد الصراع من خلال السلوك والتصرف والحركة التي سادت التدرج الطبيعي ليس من شك في ان الدعامة الهامة تكمن في العقدة او المأزق للرواية وجمال الصياغة هو الوسيلة الاولى للنجاح السردي الذي راعى فيه الكاتب اسلوب السهل الممتنع في طرح الموضوع الذي يثير بلا شك انفعالات القاريء ويمتعه وفي ذات اللحظة.

يثير التساؤل عن التطابق مع الواقع المعاش اي واقع فسدت فيه السياسة حتى تطال فساد الناس " دورة الحياة في حي الرمال دورة مضطربة، الهوس السياسي ضرب الجميع كأنه فايروس انتقل من كائن الى آخر وغالبا بسبب العجز واللاجدوى وأن السياسة تصبح في وسط تلك الجلسة الواجهة تحت الشمس. مهنة من لا مهنة له " ص٢٤ كثير من هذا الوصف وهذه الحوارات المنسوجة بخيال شفاف جعلت من الشخصيات حية في خيال القارئ لا تتحرك كالعرائس بإرادة كاتبها، بل هي حية تحرك الوجدان عن معان ومضامين دفينة في النص تماثل الواقع وترشد الى الخطأ والصواب في سلوكها وفي تحركها.

وما اشبه واقعنا العربي وواقع اي مجتمع يتقاسم قومه المغانم والسياسة اقلية مهما كثرت على اكثريته وعلى حساب المستقبل.

حياة تلك الفتاة.. هي الحياة، هي الحب والمثل والوفاء تتمثل مع الحارث المحبان للمكان وللناس من غير تلون وألوان متحزبة.

استندت الرواية الى خصوبة فكرية وقوة في الخيال لتصوير الاشياء والمواقف كما ينبغي أن تكون.

فيها قدر كبير من الخبرة والتجارب وبذات الوقت قدرة على النفاذ إلى حقائق الأشياء.

ونحن نجوب في أجواء هذه الرواية الجذابة والمتميزة فقد كنا نجوب في عالم وخيال جرت علينا احداثه كنا تجري في العالم المتخيل. فمن الناحية الفنية كانت الشخصيات في الرواية مرسومة من الداخل بتمكن وبراعة. لأن الطاغي عليها هو سلوكها وتفكيرها وحركتها. ولذا تبين للقارئ جميع ابعادها الفنية وهو ما جعل هذه الرواية المتميزة تخاطب الجميع. ومن هنا كان الاسلوب الطاغي على الرواية هو السهل الممتع والممتنع.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم