أشار ألبرتو مانغويل في كتابه (فن القراءة) "إن محفزنا الأول هو تفكيك لغز ما نحس به حولنا، لكأن كل شيء في الكون ذو معنى” وأعقب بذات السياق "لو كانت الطبيعة كتابًا فهي كتاب لا نهائي، أو إنه على الأقل يترامى كالكون نفسه".

غالب الظن أن مبتغى الكاتبة عائشة ابراهيم جليّ فيما رمى إليه مانغويل، فقد حفزتها لوحات أكاكوس الموجودة في كهوف صخرية، جنوب غرب ليبيا محاولة تحليلها، مستمدة بذلك من الطبيعة حكاية بدت واحدة من قصص ألف ليلة وليلة.

"تظل الرموز عاجزة عن بلوغ الكمال في كتابة أي قصة، هي وإن كانت وسيلتنا لتوثيق حياتنا، لكنها ليست فاعلة بما يكفي، اللغة المنطوقة تبدو غير كافية للتعبير عن كل خلجاتنا فكيف باللغة المرسومة بالصور؟"

استحضرت ابراهيم العصر الأمومي، عادت الى عشرات الآلاف من الأعوام، لتسرد أسطورة عالم أُلهت فيه المرأة، فكانت الملكة تندروس التي ورثت الحكم عن أخيها، والبطلة هيريديس الممتلكة لقوى خفية جعلتها تنتصر في معارك حربية ما أسبغ عليها قداسة ومكانة أججت نار الغيرة في قلب الحاكمة، إضافة ل سافي التي اختطفت وقامت من أجلها الحرب "ليست مجرد غزالة، إنها آية الموهيجاج وتميمة النصر التي سنكتب بها تاريخنا".

برعت الروائية في منح رسوم الجبل والمومياء المحنطة لرضيع - عثرت عليها عام 1958- استنطاقًا أعاد الحياة لجزء من تاريخ ليبيا، عبر حبكة درامية ركيزتها الزعامة، حقيقة الحب ومنحة الحياة.

متعة القراءة تجاوزت الحكاية للغة بانت من روح الكاتبة، لغة نقلت النص من تاريخية تجريبية حميمة، إلى طروحات ذاتية عنت أفكارًا وجودية، وهمومًا آنية مرتبطة بالفرد والشعوب.

"ليس غريبًا أن يصبح عدو الأمس صديق اليوم في ظل التحالفات الجديدة واعادة توزيع خارطة القوة"، "اذا لم يقرأ البشر التاريخ بين الحين والآخر فسوف يتملكهم وهم الحاضر، الوهم الذي سيقضي عليهم في النهاية حين يخفقون في قراءة المستقبل"، "سجلات الخلود متشابهة، لا تكتب الا تاريخ المنتصرين وان كان بلغات مختلفة"

تتبع قلم الروائية عائشة ابراهيم يكشف نكهة ليبية تخصها، متميزة كبصمة الإبهام، فهي في روايتها الاولى(فصيل) الصادرة عن دار ميم، أثارت منظومة الخنوع لسلطة ارادت هدم آثار قديمة، غاصت من خلالها مجتمع القرية الليبية.

أما في الرواية المرشحة مؤخرًا لقائمة البوكر الطويلة 2023 (صندوق الرمل) الصادرة عن دار المتوسط، فقد أجادت الكاتبة استجلاب الاستعمار الايطالي من وجهة نظره، تفاعله الانساني مع بشاعة حدث الحرب، بسردية بليغة محكمة الصور، تُظهر احترافية قلمها في تباينه المتجدد بين تجربة وأخرى، من حيث المضمون، البناء واللغة، مطبقة ما ذكره ماريو بارغاس في رسائله الى روائي شاب "بعض الكُتاب يضاعفون رؤيتنا لما هو إنساني بإبرازهم مستويات أو مراتب من الواقع كانت من قبل مجهولة، أو تكاد لا تُذكر، واظهارها فوق مستويات الواقع المعهودة والمتعارف عليها".

"الروائي يخلق خواص الأشياء، ويدفعها إلى الحياة في كل وقت” اقتباس بديع عن أحمد الزمام في كتابه (العاقل الذي ركل رأسه)، يلخص سيرة قلم عربي، وقف على لذة النص كما نعتها بارت "إن نص اللذة هو النص الذي يُرضي فيملأ، فيهب الغبطة. إنه النص الذي ينحدر من الثقافة، فلا يحدث قطيعة معها، ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم