في روايتها الأولى ترسم مريم عبد العزيز باقتدار لوحة شديدة الخصوصية والجمال، تستعرض فيها طرفًا من حياة بطلة روايتها الصحفية "سلمى" التي تعاني خذلان الحب وضياع مقبرة والدها، في حكاية تبدو غريبة، ولكنها شيقة تستمد من الواقع العديد من تفاصيله وحقيقته، وتنطلق منها إلى مناقشة قضية شديدة الأهمية والحساسية وهي الشباب الذين تضيع حياتهم غرقى في سبيل الحصول على فرصة للحياة هناك على الطرف الآخر من العالم!

قد تبدو الرواية لأول وهلة مجرد رحلة بحث البطلة عن قبر أبيها، ولكن ما إن ندخل إلى تفاصيل العمل حتى نتورّرط مثل سلمى تمامًا في تفاصيل العلاقات والعائلات المختلفة التي تتعرّف عليهم وترتبط بهم، بل وتسمح لنا الكاتبة من خلال صوت الراوي المشارك بالتعرف عن قرب على بعضهم، فنتعرف على "أم بطة" وفقيدها عماد، ونسمع صوت وهواجس مدرس التاريخ "حامد" الذي يقوده حظه لأن يكون في طريقها، ونعرف من خلاله حكاية أخرى وتفاصيل مختلفة وأحلامًا مؤودة وموتى ضائعين! كما تحضر شخصية الريس مصطفى بكل ما تحويه من صراعات وسعي لتحقيق مكانته داخل عائلته خلفًا لوالده، ومحاولته للحفاظ على حلم أخته جميلة الذي تفلت من أيديهم!

"قد لا تزورك في المنام أجمل فتاة رأتها عيناك، ولكنك قد تصادفها في الحياة هكذا دون ترتيب مُسبَق وقد لا تكون هذه الفتاة هي الأجمل في الواقع، ولكنك بطريقةٍ ما تراها هكذا. تتعثر في تشتُّتها وضياعها، لكنَّ شيئًا ما في تلك الفوضى يجذبك إليها شيء ما فيها يشبهك هي لا تعرف بالتحديد ما الذي تريده من هذه المدينة، سحبها نفس التيار الذي سحب سنوات عمرك الماضية تنبش جراحًا قديمة ظَنَنْتَها سَكَنَت، أعادتك إلى شوارع الإسكندرية التي هجرتها، وبيتك الذي لم تَعُدْ ترغب في دخوله، بل وفضَّلْتَ عليه التسكُّع في شوارع المدينة بين مقهى وآخر مع هذه الغريبة حتى الصباح".

ولكن الرواية لاتكتفي بالدوران في فلك سلمى وحامد، رغم أنها تبدو كانت مؤهلةً تمامًا لذلك، بل بدا من بعض فصول الرواية القصيرة أن الكاتبة أنست لهذه القسمة بينهما، ربما تمنح القارئ شعورًا بالدفء بين حكايتين يتناقل كل واحدٍ منهما طرفًا منها، ولكن تحضر جميلة بحكايتها ذات الفرادة والخصوصية منذ بداية الرواية، حتى تتسرب شيئًا فشيئًا بين الحكايات وتفرض حضورها قرب نهاية الرواية، لتبدو تجسيدًا حيًا للحلم المجهض الذي يذوي بين يدي سلمى وحامد، فيما هما لا يملكان من أمرها شيئًا!

تحضر الثورة وأحلام الشباب الأخرى على خلفية الحدث الرئيس للرواية، بل إن شخصية عادل المعتقل تحضر كما يبدو على استحياء، ولكنها تشير إلى ذلك الموقف الخاص جدًا من ثورةٍ مجهضة، وأحلامٍ سرعان ما أصبحت مؤودة تعبّر عنهم سلمى بكل وضوح فتقول

"لا أنفر من الغاضبين، بل أَرْفُقُ لحالهم؛ ربما لكوني واحدةً منهم، أعرف أن لديهم دوافعهم الخاصة، فبعد كل ما عاصرناه من أحداث في السنوات القليلة الماضية لم يَعُدْ بإمكاننا إنكارُ مشاعر كالغضب والحسرة والخذلان نحن غاضبون لأن ما نحصل عليه يبدو لنا أقلَّ بكثير مما نستحقُّ أو مما بذلناه.لكن ذلك الغضب الجديد الذي يملأ صدورنا غضبٌ مهزوم، لا يقوى على الفعل. نحن نتحوَّل بقوة خفية لصورة أخرى من الأجيال التي كنَّا نسخر منها في أيام نشوتنا بالنصر".

وهكذا تبدأ الرواية وتنتهي مع فكرة بحث البطلة عن مكان قبر والدها، ولكنها في رحلة البحث تلك يتكشف لها عالم آخر، وتدق ناقوس خطرٍ يزحف على المدينة الهادئة المسالمة "رشيد" التي تودع أبناءها على ضفاف البحر، بحثًا عن فرص العمل التي لايجدونها، في مقابل صراعٍ آخر مكتوم لأفرادٍ يبدون منهزمين يسعون جاهدين فنقاذ ما يمكن إنقاذه من أبناء هذه المدينة وغيرها، حتى يجرفهم جميعًا ذلك التيار الذي لا يرحم!

أحكمت مريم بناء عالم روايتها، ورغم تشعب الحكايات، وتعدد أبطال الرواية، إلا أن خيطًا قويًا كان يجمعهم كلهم، كانت فيه البطلة سلمى محور العمل، واستطعنا أن نتعرف من خلالها على باقي الشخصيات، وجاءت انتقالات السرد سواء بين شخصيات العمل الرئيسة أو الثانوية بسلاسة وذكاء.

بالإضافة إلى ذلك تمكنت ببساطة من رسم صورة للمدن التي انتقل بينها أبطال العمل، فحضرت القاهرة بكل ما تمثله من قسوة وجفاء، ورشيد تلك المدينة الهادئة البسيطة، وكذلك الإسكندرية التي تمثل ذاكرة يسعون للتخلص منها، يعيش أبطال الرواية في غربة مستمرة وبحثٍ مستمر عن الدفء والحب والأمان، بينما تتجسد المدن وكأنها تشارك أبطال الرواية تحديد مصائرهم، فلا سلام أو هدوء في مدنٍ تعاني ذلك القدر من الفوضى والضوضاء!

في نهاية الرواية تقول سلمى: "علَّمَتني جميلة أن أُحبَّ الغياب كما أحببت الحضور، كانت أكثر مني إيمانًا بأننا سنصل لقبر أبي، هذا القبر الذي لم أَعُدْ أبحث عنه، واستسلمت أن قبر أبي مرهونٌ بعودة عادل، كما أن كل حضور مرهونٌ بالغياب حضر الواقع المحبِطُ للقاهرة، فغابت أحلام أبي عنها. وحضرت جميلة فغابت الوحدة. ثم حضر الحب فغابت جميلة".

رواية "هناك حيث ينتهي النهر" هي الرواية الأولى لمريم عبد العزيز، تنبئ بميلاد روائية جديدة تقتحم الساحة بكل قوة وتمكن، قادرة على صياغة عالمٍ خاص بها والتعبير عنه بكل اقتدار، صدرت الرواية مطلع هذا العام 2022 عن الكتب خان بالقاهرة ، وقد سبقتها مجموعة قصصية بعنوان "في مقام راحة الأراواح" عن روافد عام 2016.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم