حلم تركي.. بين صراعات الهوية والبحث عن الحب
من نكون وماذا نريد؟ كيف يعيش العرب في مجتمعاتهم اليوم بعد مادار فيها من ثورات وصراعات وحروب؟ هل ثم مكانٌ آخر يمثل حلم الحياة المثالية الكريمة، كما تقدمها الشاشات في العالم العربي كله؟ هل تحول المواطن العربي إلى باحث عن ذلك الحلم التركي الذي يبدو لامعًا وبراقًا؟ أم أن الحقيقة أمر مختلف تمامًا عن كل ما يتم الترويج له والحديث باسمه؟!
في روايتها الثانية، والصادرة حديثًا عن المركز الثقافي العربي، تقدم الروائية المغربية كريمة أحداد صورة بانورامية لأحلام وآمالٍ عددٍ من الشخصيات الذين اختلفت شخصياتهم وتباينت مصائرهم، وجمعهم في النهاية مكانٌ واحد، ترسم كريمة صورة مغايرة لأسطنبول تركيا، تبدو شديدة الدراية بها، وبتنوعها وثرائها، وبشوارعها وميادينها، على اختلاف أنماط الحياة وطبقات المجتمع فيها، لكي تضع القارئ العربي على عددٍ من الحقائق التي قد تكون غير مألوفة أو معتادة بل وصادمة أحيانًا.
تأتي البداية في المغرب مع قصة الحب التي تجمع إيمان وخالد، رغم اختلاف نشأتهما وثقافتهما، ولكن يبدو أن "الحب" وحده استطاع أن يجمع بينهما، وأن يكلل بالزواج ومشاركة الآمال والأفكار والأحلام، التي يكون ذروتها الذهاب للعمل في تركيا، بلد الأحلام، ولكن هناك، وبالتوازي مع قصص شخصياتٍ عربية أخرى، جاءت فيما يبدو باحثة عن ذلك الحلم أيضًا، تتسرّب هذه الأحلام رويدًا، ويقف الجميع أمام ذلك السراب الكبير، متأملين حياتهم واختياراتهم، وكيف وصلت بهم الحياة إلى تلك الحالة من الضياع والتشتت والغياب!
((تعلمت أن تسلك الطرق السهلة في الحياة فقط، حتى لا تخرج بندوبٍ غائرة في القلب والذاكرة، لقّنتها أمها أن الجمال هو ألا تحمل ندوبًا في الجسد والروح على السواء، فنمت بركبتين فارغتين من القوة، وهاهي تفهم الآن أن القوة رديفة الألم والمعاناة، أن تسقط، أن يتملّكها الخوف، أن تشعر بالضعف، أن يخرج قلبها من فمها، أن تلسعها الأشواك ثم تخرج في كل مرةٍ أكثر قوة وشموخًا وتستمر في المشي)).
لم يقتصر الأمر على الشخصيات العربية في الرواية، فالإنسان هو الإنسان، ولعل هذا أحد ما تود الرواية التركيز عليه بوضوح، جاء البحث عن الهوية والحب كذلك في حكاية أخرى تركية جمعت بين كِنان وهازال اللذان تشاركا الحلم معًا ولكنهما فجأة تعثرا أيضًا بتلك الغيرة القاتلة، فلم يتمكن كلا منهما من مواصلة حياته مع الآخر، بل وتحوّل البحث عن الحب إلى بحثٍ عن الوجود والهوية، ذلك أن شخصيات الرواية كلها متورطة بشكلٍ أو بآخر مع ماضٍ يكبل أحلامها ويقف حائلاً بينها وبين آمالها وطموحاتها، وهي المواجهة التي تبدو أكبر وأشد وضوحًا مع شخصية ناجي/نجوى الذي يعاني اضطراب الجنسية، والذي يسعى جاهدًا في بلد الحريات للحصول على حريته والخلاص من ذلك الهم الذي لازم حياته طوال عمره!
تتجاور الحكايات الدرامية المؤثرة التي تابعها شخصيات الرواية من خلال الدراما التركيا التي اجتاحت العالم العربي، مع حكاياتهم الشخصية، ويبدو الخطاب الإعلامي مجاورًا للخطاب السياسي والديني في رسم صورة مثالية لتركيا والأتراك، ولكن الحقيقة التي يراقبها الجميع تأتي مختلفة عن ذلك وشديدة الصدق والواقعية، فهاهم يتعرفون على المدينة وسكانها، ويسيرون في طرقهم ومدنهم، ويسمعون أصواتهم ويتألمون لآلامهم، وإن ظلوا محتفظين في النهاية بحلم واحدٍ للعودة
((في هذه الشقق الواقعة في زقاق بلاسكا الضيق والصغير هناك حيواتٌ مختلفة، شجاراتٌ، مسلسلات تصدح موسيقاها عالية وتنفذ عبر الجدران لتمر إلى شققٍ أخرى، قصص حبٍ تبدأ وأخرى تنتهي، ولاداتٌ جديدة وجنائز، أحلامٌ وإحباطات. أطفال يلعبون وهم يصدرون أصواتًا تشبه زقزقة العصافير... عيونٌ مترقرقة بالأمل، آهات لذة، نحيب في آخر الليل .. هناك أيضًا شقة صغيرة لفنانٍ شاب يدعى كنان، شقة من تلك الشقق الكثيرة الطافحة بالأسرار التي لا يمكن أن تفشى لأحد..)).
استطاعت كريمة أحداد أن تسبر أغوار شخصياتها وعوالمهم بدقة، ورغم أن الرواية ركزت على شخصيتين رئيسيتين هما خالد وإيمان، إلا أنها اطلعتنا بشكل ذكي على عوالم الشخصيات الأخرى ببساطة وذكاء، ورغم تعدد الشخصيات واختلاف مراكزهم وجنسايتهم إلا أن الحكاية بقيت مترابطة ومشدودة والرواية التي تجاوزت ال400 صفحة قدمت تلك الحكايات بسلاسة وتشويق شديدين، تجعل القارئ حريصًا على متابعة التفاصيل من البداية للنهاية. تلك النهاية التي أخذت الكاتبة تمهد القارئ لها مع توالي صفحات الرواية .. والتي بدت نهاية حتمية لقصص الحب وحكايات الألم!
تجدر الإشارة إلى أن كريمة أحداد روائية وصحفية مغربية تقيم في باريس، عمِلت في مجال الصحافة المكتوبة والرقمية داخل وخارج المغرب منذ عام 2014. حاصلة على الإجازة في الإعلام والاتصال من المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، وعلى ماستر في الاتصال السياسي من نفس المعهد عام 2017. حصلت على جائزة اتحاد الكتاب المغربي للأدبا الشباب عن مجموعتها القصصية الأولى (نزيف آخر للحلم) عام 2015، وجائزة محمد زفزاف للرواية عن رواية "بنات الصبّار" عام 2018.
0 تعليقات