في عالم يموج بالصراعات والدمار والحروب يبدو البحث عن "معنى للحياة" أو هدفًا يسعى المرء لتحقيقه سؤالاً حاضرًا ومحوريًا طوال الوقت، كيف يمكن أن ننجو؟ هل يمكن أن يكون لحياتنا رغم كل تلك الإخفاقات والآلام معنى؟ وهو السؤال الذي طالما شغل العديد من المفكرين والأدباء والفلاسفة، وكان واحدًا من أسباب كتابة نوعٍ من الروايات هو رواية "الرحلة" التي يخوض فيها البطل مغامرة ما بحثًا عن كنزِ مفقود، أو في سبيل الوصول إلى أميرة حسناء!

ولكن في رواية "حكايتي الأخيرة للتنين"، الصادرة مؤخرًا عن دار المحروسة، نجد أنفسنا إزاء رحلةِ مختلفة، نبدأها من النهاية، حيث يفاجئ القارئ ببطل الرواية يشرع في تنفيذ خطة للانتحار، وما إن تفشل هذه الخطة حتى يجد نفسه أمام خطة أخرى للحياة تفرض نفسها عليه لوفاة رجل آخر أمامه، كأنه فداه بحياته، وحينها يقرر البطل "عيسى" أن يتتبع ما كان من سيرة ذلك الرجل ويسير في الحياة مثله.

تسير الرواية في خطين متوازيين، يتمثل الأول في حياة البطل بعد محاولة الانتحار وما يقابله في طريقه من شخصيات ومواقف، والخط الآخر هو ذلك الماضي الذي لا يزال مكبلاً به وبآثاره يسعى للخلاص منه وتجاوزه، وقد أجاد الكاتب الروائي محمد عبد الله رسم تفاصيل عالم بطله، والانتقال الذكي بين لمحاتِ من ماضيه وما يعانيه في حاضره، كما اختار أن يعرفنا على تفاصيل حياته تدريجيًا، ففي البداية لا نعرف عنه إلا ما يحيط به أثناء محاولة الانتحار أمام مزلقان القطار، وهو يرصد أنماط الناس هناك، ثم إذا به ينتقل إلى منزله فنتعرف على جيرانه، وشيئًا فشيئًا نعرف أنه أستاذ جامعي في الفلسفة قادمٌ من أمريكا بعد رحلة مليئة بالإحباطات، أصيبت أمه بالسرطان فجأة فاضطر للعودة إليها حتى ماتت من فترة قصيرة. وإذا به يعود إلى ذلك الماضي ويلملم ما تبقى منه بين خوفٍ وقلق ورجاء!

نتعرف على طفولة "عيسى" وبداية تعرفه على الفلسفة من خلال أستاذه وصديق والده "سليمان" الذي فتح له عالم الأدب والفلسفة، وكان أول محفزٍ له على التفكير فيما يقرأ بل ومحاولة نقده، والذي كان بمثابة الأب الروحي له، والذي شجعه للالتحاق بكلية الآداب بل ورسم له خطة إنجازاته وحصوله على الدكتوراة من الخارج، ويحكي له فيما يحكي قصة رمزية عن الطفل الذي يتمكن من مواجهة التنين، تلك القصة التي تبدو مرتبطة بالرواية منذ بدايتها وحتى النهاية، والتي تتحدث عن أسطورة التنين المهول الذي تكسو جلده حراشف نحاسية مسجل عليها كل ما على الروح أن تعمله، ولذلك تتحول تلك الروح إلى جمل ثم إلى أسد حتى تتمكن من القيام بالمطلوب منها، ثم يتحول فجأة إلى طفل، ويكتشف أنه بتلك الهيئة الجديدة قادر على مواجهة التنين:

(( تمكَّن الطفل، في وقت زهيد، من الانفصال عن كل ما حدث بالماضي، ومن التغاضي عن تاريخ الخضوع وسنوات الغضب، ومن التَّخلُّص من مشاعر الاحتقار لهيئاته السابقة، فهيئاته السابقة ماتت، وكانت في موتها البذرة التي نبتت منها صورته الحالية، صورته الأخيرة التي أصبح بإمكانه استخدامها لصنع كائن أفضل، وأقوى. يمكنه أن يكون هو البداية الجديدة لأن يعيش بإرادته وأفكاره وقيمه الشخصية بعيدًا عن اتفاقها، أو اختلافها عمّا رآه في رحلته مع التنين))

هكذا جاءت حكاية التنين بشكلٍ عابر بين ثنايا الرواية، بينما انشغلنا بتفاصيل مغامرات "عيسى" وعلاقاته بين جيرانه وتلاميذه الذين يسعى لانتشالهم مما هم فيه من ضياع، وبقي عنوان الرواية وتلك الحكاية مؤشر هام يمكن أن يعيدنا لتأويل رحلة عيسى كلها وسعيه الحثيث للتغلب على ذلك التنين، سواء كان ذلك التنين حياته التي لا يجد لها معنى، أو المجتمع الذي فرض عليه ظروفًا ومواقف وأحداث لا قبل له بها، أو حتى محاولاته الجديدة للتغلب على تلك العقبات التي اعترضت طريقه في النهاية.

ربما يقترب سعي بطل الرواية عيسى ومحاولته لإيجاد معنى لحياته مع الفيلسوف الأمريكي "دانيال كلاين"، ولعل المفارقة أن الرواية تبدأ بالمقولات التي كان يكتبها عيسى لنفسه في شبابه ثم إذا به يكتشف أنها مقولات جوفاء ويسخر منها بعد مرور الزمن، وهو الأمر الذي دفع كلاين لكتابة كتابه الشيق (كلما وجدت معنى للحياة يغيرونه) ( صدر مؤخرًا بترجمة شهرت العالم) والذي يناقش فيه الكاتب عددًا من المقولات والأفكار الهامة لكبار الفلاسفة وكيف تغيّر شعوره بها بعد مرور الزمان، وربما هذا ما يترسب إلى وعي البطل والقارئ بعد تلك التجارب التي يمر بها عيسى، لاسيما في حواراته مع أستاذه "سليمان" الذي يقرر أن يواجهه بعد كل ما مر به من مواقف، لاسيما حواره الأخير الذي يكون بمثابة مواجهة كاشفة ومؤثرة على مسار الرواية بعد ذلك بشكلٍ كبير.

ليس عالم الفلسفة فقط هو ما يتناوله محمد عبد الله في روايته، ولكن بطل حكايته يصاب بعدد من الاكتئاب مما يدفعه لزيارة عدد من الأطباء النفسيين، وعند ما يعود إلى مصر يدور بينه وبين طبيبته النفسية (علا) حوار هام وممتد حول حالته الصحية ومحاولته التخلص من آثار ماضيه، لاسيما شعوره بالذنب لوفاة والدته ثم حبيبته، وينتقل بهم الحوار إلى جدوى الطب النفسي من الأساس، ويبدو أن ثمة فارق في تناول الكاتب وموقفه من الطب النفسي وطريقة تعاملنا معه، ويسعى بخفة ومن خلال ذلك الحوار المتبادل بينهما أن ينقل للقارئ نوعًا من الوعي بأهمية الطب النفسي وضرورة أن يتجاوز فكرة الدواء أو الإرشادات المجانية حتى يكون العلاج ناجحًا، ومدى أهمية اختيار الطبيب/المعالج المناسب لكل حالة، وكذلك ضرورة وعي المريض نفسه بمشكلاته وسعيه الحقيقي لتغييرها.

((في الصباح وصلت إلى الحصة بصداعٍ بالغ الوطأة كان من الأجدر أن أتغيَّب لأنام كما ينبغي لكنني لسبب ما أردت أن أقابل طلابي الثلاثة، جلست أتأمَّلهم، صراصير، مثل صرصار الحكيم، ومثلي، لن أتدخَّل لأنقذهم، لا علم لديَّ عن كيفية الإنقاذ. "كان العِلْق نَفَع نفسه". الأمل ليس عندي. لكن في داخلي اعتملت رغبة في الحديث إليهم على أي حال. لم أشرح شيئًا، لكني نويت أن أتمَّ الحديث عن الجامعة؛ على الأقل إكرامًا لروح الدكتور ثابت))  

ثمة مغامرات أخرى يخوضها "عيسى" في الرواية سواء بصحبة جارته "الست هانم" أو جاره الذي يبحث عن بقايا صوت الشيخ "محمد رفعت" ويأخذه لرحلة غريبة معه، أو هؤلاء التلاميذ الذين يرتبط بهم مفسيًا وعاطفيًا وخاصة كبيرهم الذي يسمونه "الراعي" ويسعى لتغيير حياتهم، ويكتشف في النهاية أن وصاياه كان من الممكن أن تورطهم أكثر!

"لا نصيحة في الحب، لكنها التجربة" .. على نحو ما قال درويش، في النهاية نخوض مع عيسى البحر كما خاض، ونتقلب مع حكاياته ومغامراته وهواجسه وأفكاره، ونقف معه في النهاية لنتأمل كل ما حدث بشيءِ من التعجب وقدر غير يسير من الدهشة، ولعل هذا ما يفعله محمد سامي عبد الله كل مرة باقتدار، ورغم أن روايته هذه المرة تأتي مثقلة بالكثير من الأفكار الهامة إلى جانب الحكايات الشيقة، إلا أنه يؤكد في كل مرة قدرته على جذب القارئ لعالمه، وتقديم رواية مختلفة ثرية ومتماسكة.

تجدر الإشارة إلى أن محمد عبد الله سامي روائي مصري، تخرج من كلية الهندسة قسم الأجهزة الطبية عام 2009، صدرت روايته الأولى "درب الإمبابي" عام 2018، وحصلت على جائزة ساويرس الثقافية لشباب الأدباء عام 2019، كما صدرت له مجموعة قصصية "نابليون والقرد" وحصلت كذلك على جائزة ساويرس الثقافية 2021، وله رواية "الآن تأمن الملائكة" صدرت عام 2022.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم