تعرف الرواية الجيدة بأنها الرواية التي يتماهى القارئ مع أبطالها تمامًا، رغم كل ما يمكن أن يكون من اختلافات بينه وبينهم، بل ومايمكن أن ينشأ بينه وبينهم من علاقة متوترة غير مفهومة، كأن يفرح لفرحهم ويحزن وربما دمعت عينه لما جرى لأبطاله الذين لم يعودوا أبطالاً على ورق، وإنما أِشخاص من لحمٍ ودم يقرأ ويتعايش مع حكايتهم بكل تفاصيلها، ويتنهد عند انتهاء الصفحات، رغم رغبته في أن يواصلوا حكايتهم التي أصبحت جزءًا من حياته اليومية.

والروائي الناجح هو الذي يكتب فيجعلك جزءًا من حكايته، منذ المشهد الأول للبطلة في لبنان، ثم الدخول المفاجئ إلى عالم فرح وأمها زينب، تجد نفسك بالفعل متورطًا مع هذه العائلة ليس بسبب انسابية الحكي وصدقه فحسب، ولكن لأن الحكاية تحمل عددًا من المفاجآت المستمرة، والكاتب وإن كان لا يستغل فكرة الإثارة والتشويق، لإن الرواية لا تعتمد عليهما تمامًا، إلا أن الحكاية محملة بهما بشكلٍ ضمني، فمنذ البداية نحن على موعد مع امرأة تقول أنها (ستهدم البيت وتحسم قصة الحب وتتخلص من أمها وتخطف عروسًا وتقتل طفلاً) ربما لاتلفت هذه الكلمات القارئ لأول وهلة، لأنه سيتوه في تفاصيل الحكايات أصلاً، ولكن ما إن يواصل القراءة حتى يكتشف أن هذه الأشياء تحدث بالفعل، وفي كل حركة/ خطوة من خطوات مهمتها الشاقة تلك تسترجع فرح حكايتها وعالمها الذي بدأ يتقوّض .. لنتعرف معها على حكايات زينب .. وفرح .. وزينة

ثلاث حكايات لثلاث نماذج مختلفة من النساء من أسرةِ واحدة، تحمل فرح كاهل الحكاية، ولكنها تعود لماضي أمها زينب (في السبعينيات) كما تطل من مكانها على قصة ابنتها زينة ومايمكن أن يكون عليه مستقبلها.

وهكذا ترسم الرواية صورة واسعة للمرأة في بيئات وطبقات وظروف سياسية واجتماعية مختلفة، ولكن المفاجأة أن القهر واحد وإن تعددت صوره، بل وحتى إن تغيرت ظروف هذه المرأة نفسها، سواء كانت متزوجة أو مطلقة عاشقة متحررة أو راضية بواقعها ومقيدة، في كل الأحوال ثم قدر كبير من القهر يمارس عليها من الدنيا كلها، الأب والأم والإخوة والأصدقاء والمجتمع والناس، والمفاجأة الثانية أن كل ذلك استطاع عز الدين شكري أن يعبّر عنها ببساطة، وبدون فذلكة أو خطابية، من خلال قصة أسرة بسيطة من بدايتها حتى أيامنا هذه، مرور بتغيرات اجتماعية وسياسية كثيرة، بعضها مؤثر بشدة وبعضها بدا عابرًا أيضًا.

ماهي مخاوف المرأة؟ كيف يمكن التعبير عنها؟ كيف تتعامل معها في مراحل حياتها المختلفة؟!

بل كم رواية كتبت لتعبر عن المرأة ومخاوفها، وما تتعرض له من قهر وظلم وقلق؟!

كيف يمكن لروائي بعد هذا كله أن يصوغ لنا حكاية/رواية متماسكة تمامًا، ويجعلنا نتعاطف معها ونعيش حالتها بكل هذا الصدق والشفافية .. بل والجرأة أحيانًا .

(( لا أحتاج إلى وصف الحب. لا أحتاج إلى وصف ضوئه الذي يغمر الدنيا. أو الألوان التي تزدهي فجأة. أو التسامح الذي يملؤني إزاء ما يستفزني، بل ما أكره. أو الرغبة في الغناء والجري. أو التفاؤل الذي يشمل كل شيء. أو عودة الصوت إلى شريط الحياة الصامتة التي أحياها: لم ألاحظ وجود عصافير قرب نافذتي من قبل. أو استماعي لأم كلثوم وكلمات أغانيها التي كانت كلها تتشابه في الماضي:

(‫ اللي شفته/ قبل ما تشوفك عينيَّ

 عمر ضايع يحسبوه ازاي عليَّ!  إنت عمري اللي ابتدا بنورك صباحه)

 أو الشوق: الشوق الذي يحرق، لرنة رسالة التلفون، لكلمة أو استيكر قبلة، فما بالك برؤيته، بالنظر في عينيه وتلقي هذه النظرة التي تخترقني وتذيبني في مكاني. أو بلمسه. لمس يده. أريد الإمساك به. نطيل مسك أيدينا في السلام قليلًا، نعمق حضن اللقاء والوداع قليلًا، أحيانًا تمتد يده وتلمس جانب يدي وكأنها مصادفة. «أتحرَّق» شوقًا هي الكلمة المعتمدة في اللغة، وهي كلمة مستهلكة لكنها أدق وصف لحالتي. يتحرَّق، كل جزء مني شوقًا للمسه، لاحتضانه، لتقبيله، للغرق فيه ولإغراقه فيَّ. سأموت.. لو لم ألمسه ويلمسني قريبًا، سأموت.. لو لم يأخذني وآخذه سأموت. الشوق يؤلم جسمي، كأن هناك مكوِّنًا ناقصًا في جسدي. ويؤلم غيابه روحي وجسدي. لا، ليس الأمر جنسًا؛ الأمر كريم.))

بسرد بسيط، وبتقنيات ذكية معتمدة مثل المذكرات والتسجيلات الصوتية استطاع عز الدين شكري أن يلملم أطراف حكايته منذ مصر السبعينات حيث عائلة من قرية بسيطة في المنصورة يسافر الأب للبحث عن فرصة عمل في الكويت، ومايجلبه ذلك على الأسرة الصغيرة من مشكلات، وحتى طفولة بطلة الحكاية "فرح" وما بدأت تعانيه في هذه الأسرة من أزمات تتوج بالفضيحة الكبرى التي تقلب حياتها، وتتخطاها بل وتتزوج زواجًا تقليديًا على أمل الخلاص، وتنجب ابنتها، كل ذلك لكي نصل إلى قصة حبها الكبرى مع النجم السينمائي "كريم المالكي" (هل يذكرنا بآسر ياسين) وكيف تندمج في هذه القصة التي تبدو محور الرواية الأساسي، ولكنها تتمكن من تجاوزها، لأن هناك مشكلة أخرى ظهرت مع البنت، وهي الأم الباحثة عن الحب والزوجة التي تسعى للخلاص من تجربة فاشلة تتمكن من تخليص ابنتها من ورطة كادت تغيّر مسار حياتها للأبد.

لايمكن تلخيص الرواية، ولا إجمال حكايتها، لأنها مليئة بالتفاصيل التي عرضت بشكل ذكي ومكثف، ودرنا مع أبطالها حول العديد من الأسئلة المحيرة التي لاتزال تبحث عن إجابات، مذا نفعل مع الحب والزواج؟ كيف نختار؟ هل يمكن أن نغيّر مصائر أبنائنا فعلاً؟ كيف نتعامل مع الأمهات؟ .. والمجتمع والناس، تبدو أسئلة فرح شديدة الواقعية، وهي إذ تحكي حكايتها، ثم تواصل ابنتها بعدها توضيح ماحدث، تضعنا في صلب المشكلات والأزمات دون أن نتعرف على حل صحيح واحد.

((زينة حادة الذكاء، لكنها بلهاء. هل أشعر بخيبة الأمل؟ نعم، لكني لا أستطيع قول ذلك. ممنوع. قواعد التربية الحديثة تحظر عليَّ الشعور بخيبة الأمل: يفترض ألا تكون لي توقعات إزاء بنتي، ألا أرغب في رؤية شخصيتها تتطور في اتجاه محدد، ألا أنتظر منها شيئًا. يفترض عليَّ أن أربيها وأفني حياتي في خدمتها ولا أنظر إلى النتيجة؛ تطلع لطيفة أو سخيفة، رائدة فضاء أو عاملة نظافة، معطاءة أو أنانية، صوفية أو إرهابية، لا يهم، ليس هذا من شأني، دوري أن «أحبها وأساندها بلا شروط». كيف أساند ابنتي بلا شروط؟ أجهز لها مثلًا الأحزمة الناسفة، وأوصلها بسيارتي إلى الهدف الذي ستنفجر فيه؟))

بين حكايات فرح وزينب وزينة تظهر حكايات مقهورات آخرين، ولكنهم شخصيات ثانوية تأتي حكايتهم عرضًأ لعل أهمهم الخادمة آمال التي تحملت إصابتها بالسرطان وخرجت تعمل حتى تعيل أسرتها حتى ماتت. منهم أيضًا حنان، وإن استطاعت أن تتغلب على القهر الذي كاد أن يهدد أسرتها جاء مرورها عابرًا ولكنه كان مؤثرًا.

يبقى في النهاية أيضًا أن أشير إلى أن عنوان "حكاية فرح" في ظني ليس أفضل عنوان للرواية، وربما كان يليق بهذه الرواية الكبيرة المتشعبة عنوانًا أكثر تماسًا مع عالمها. هذا إن أغفلنا أن "حكاية فرح" أصلاً عنوان مستهلك في عدد من الأعمال حتى لو كانت غير معروفة.

على كل حال قدّم لنا عز الدين شكري رواية أظن أنها ستبقى طويلاً في نفوس قرائها، واستطاع أن يرسم عالم المرأة بشفافية وصدق شديدين، وانتقل بسلاسة بين بطلات روايته وعبر عنهم بشكل صادق وجميل، وأكد _ من جهة أخرى _ براعته في كتابة رواية بعيدة عن أجواء السياسة التي وصمت عالمه قبل ذلك في روايات أصبحت علامات بارزة في مسيرته الأدبية ، بل وفي الأدب المصري بشكل عام، ولعلي أقصد تحديدًا مافعله في رواية "كل هذا الهراء" الصادرة في 2017.

عز الدين شكري روائي ودبلوماسي مصري، تخرج من جامعة القاهرة عام 1987، ثم حصل على الدبلوم الدولي للإدارة العامة من المدرسة القومية للإدارة بباريس في 1992، ثم ماجستير العلاقات الدولية من جامعة أوتاوا في 1995 عن رسالته في مفهوم الهيمنة في النظام الدولي، وبعدها حصل على دكتوراة العلوم السياسية من جامعة مونتريال عام 1998 عن رسالته حول الحداثة والحكم في النظام الدولي.

كذلك عمل د. عزالدين شكري فشير دبلوماسياً بالخارجية المصرية وبمنظمة الأمم المتحدة وذلك حتى أغسطس 2007، حيث تفرغ للكتابة والتدريس.

صدرت له عدد من الروايات : كل هذا الهراء 2017، "باب الخروج: رسالة علي المفعمة ببهجة غير متوقعة" (2012)، "عناق عند جسر بروكلين (2011)، "أبوعمر المصري" (2010)، "غرفة العناية المركزة" (2008)، "أسفار الفراعين" (1999)، و"مقتل فخرالدين" (1995). لقيت روايته الثالثة (غرفة العناية المركزة) اهتماماً شديداً من النقاد والجمهور على حد سواء، كما رشحت لجائزة البوكر العربية (القائمة الطويلة)، مما أثار الاهتمام بعمل فشير الأدبي والذي كان مغموراً حتى ذلك الوقت، وتمت إعادة طباعة روايتيه الأولتين أكثر من مرة. رشحت روايته (عناق عند جسر بروكلين) لجائزة البوكر في دورة 2012 (القائمة القصيرة) ولقت اهتماماً كبيراً من النقاد والجمهور، كما كتب عنها مراجعات نقدية في صحف مصرية وعربية عديدة.في ابريل 2011 عينته الحكومة الانتقالية أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، إلا أنه استقال من المنصب بعدها بأربعة شهور قائلاً إنه "يفضل مقعد الكتابة عن مقعد السلطة". وللدكتور فشير عشرات من المقالات حول الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر والعالم العربي، منشورة بصحف ودوريات مصرية وعربية وألمانية وكندية وأمريكية منذ عام 1987. كما نشر كتاب بعنوان "في عين العاصفة" عن الثورة المصرية في 2012 يتضمن بعض مقالاته.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم