هيثم حسين 

"رامبو الحبشي" ردّ اعتبار للعشيقة الحبشية للشاعر الفرنسي


طلق آرثر رامبو الشعر ومضى إلى أفريقيا ليصبح تاجرا هناك، إذ تاجر حتى في الأسلحة. ولكن بقي الجزء المتعلق بحياته في أفريقيا مرتبطا بالرسائل التي كان يبعث بها من تلك الأرض السوداء، لم يكن يتحدّث عن حياته، بل عن القهوة والذهب والعاج وعن أشياء من هذا القبيل. ورغم أنه أنصف خادمه الأسود “جامي” قبل موته إلا أن الكثير من الأشخاص ظلوا مجهولين في الحياة الأفريقية للشاعر، وهو ما مثل مادة روائية خصبة للروائي الإريتري حجي جابر.

 يتّكئ الإريتري حجّي جابر على نقاط علّام تاريخية في روايته “رامبو الحبشيّ” لينطلق بناء عليها في هندسة عوالمه المتخيلة التي تصوّر المرحلة الأخيرة من حياة الشاعر الفرنسي أرتور رامبو (1854-1891)، وجوانب من حياته الأفريقية، وانشغالاته في تلك الفترة التي شهدت عددا من التغيرات في تاريخ البلاد؛ وبخاصة مدينة هرر الإثيوبية وأهلها التي تحتلّ الصدارة والبطولة في الرواية.

لعلّ فكرة استلهام شخصية تاريخية، تحظى باهتمام الباحثين والدارسين، تعبّر عن انشغال متجدّد بالشخصية التي تظلّ قادرة على مفاجأة الأجيال الجديدة باحتوائها على المفارقات والنقائض، أو على بؤر معتمة ونقاط خفية يمكن تخييل ونسج عوالم متكاملة بالاستناد إليها، وهذا جزء ممّا اعتمده حجي جابر ولجأ إليه في روايته الصادرة مؤخرا عن دار تكوين في الكويت.

الانتقام للمجهولين

على طريقة الجزائري كمال داود الذي أحيا في روايته “ميرسو.. تحقيق مضادّ”- أو “معارضة الغريب” بحسب عنوانها في الترجمة العربية – شخصية هامشية وردت في رواية “الغريب” للفرنسي ألبير كامو، وهي شخصية “العربي” الذي كان نكرة ومجهولا في الرواية وأرداه ميرسو بطل كامو قتيلا، ليحييه في روايته، ويمنحه اسما وصوتا وحضورا، ويخلق له حياة كاملة، ويوكل مهمة السرد لأخيه أيضا كي ينهض بها في إمعان منه بتعريف المنكر المقتول المهمّش، أحيا حجي جابر العاشقة الحبشية التي أسماها ألماز، منحها صوتا وحضورا واسما، أخرجها من عتمة النسيان عبر تخييله الروائي ليفرضها كشخصية تاريخية تقاطعت مع رامبو في مرحلته الحبشية، وكانت لها حياة لا يمكن تهميشها أو إنكارها.

الانتقام للإقصاء التاريخي للشخصيات التي يتمّ تهميشها، بقصد أو من دون قصد، من قبل شخصيات تاريخية حققت مكانة وشهرة في زمنها، وظلّت متجدّدة لاحقا، يحضر كدافع من دوافع الكتابة، حيث ما يفترض أنّه تخييل تاريخيّ يمضي إلى الأقاصي في الانتصار لألماز في حياتها المنكّرة وتجاهلها التامّ من قبل رامبو في رسائله إلى أهله.

لا يكون الدافع للانتقام لشخصية مسحوقة أو مجهولة، يتمّ ابتداعها واختلاقها وإضفاء الحقيقة التاريخية عليها، وبالتالي استنطاقها، أو الحديث باسمها ومنحها صوتا قويا، وحده كاف لخلق عوالم روائية ثرية، لذلك استعان حجي جابر بحوادث ووقائع تاريخية من تلك المرحلة التي عاش فيها الشاعر رامبو في الحبشة، وتزامن حضوره فيها في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، حيث كانت هرر، المدينة التي كانت توصف بأنها مقدسة، أو مكة الأفريقية بالنسبة إلى المسيحيين هناك، موضع تجاذب وصراع بين قوى عالمية؛ إيطاليا وفرنسا، يدعم كل منها قوى محلية على الأرض، ما تسبّب بمصائب تاريخية غيّرت وجه المدينة إلى الأبد.

يرسم صاحب “رغوة سوداء” مثلثا محاوره كلّ من رامبو وألماز وجامي، وينسج بينهم علاقات معقّدة مبنية على حبّ مستحيل، أو حبّ مبتور يظلّ يبحث عن الآخر القريب البعيد، فألماز التي يحاول ردّ الاعتبار لها، وتعريفها بعد تنكير ومحو، مهجوسة برامبو، يعلّمها الفرنسية، وهي بدورها تصبح معلّمته المحلية، تعشقه بمرور الأيام، تقترب منه كثيرا، تأسرها تفاصيل حياته وأسراره وكلّ ما فيه، تتلصّص عليه وعلى رسائله، تحاول البحث عن نفسها بين كلماته المرسلة لأهله، لكنها لا تجد ما يشير لها بأيّ حضور في حياته في هرر، تكون نكرة على هامش حياته، تبدو كشيء غير ذي قيمة أو تأثير بالنسبة له، أو هكذا تشعر.

في المحور الآخر يكون جامي، الخادم العاشق والمعشوق في الوقت عينه، يستعين به حجي جابر منطلقا من المثلية التي عرف بها رامبو، ولاسيما أنّ علاقته معروفة مع الشاعر الفرنسي بول فيرلين (1844 – 1896) الذي حاول قتله في حادثة شهيرة سنة 1873، وتحضر في سيرته كنقطة بارزة لا يمكن التغاضي عنها، ومن هنا كان لا بدّ من سدّ ثغرة في تلك المرحلة، والإيحاء باستمراريته في مثليته واختياره خادمه عشيقا له، وذلك في وقت كان الخادم جامي مسكونا بعشق ألماز التي لا تكترث له ولا لاهتمامه وحبّه، بل تتجاهله ولا تبالي بحبّه المستحيل.

ما سقط من السيرة

Thumbnail

أما رامبو فيكون حلقة الوصل في العلاقات، وفي ملامح التغيّرات التي تطرأ عليها، وعلى معالم المكان نفسه، ينشغل عن ألماز ولا يولي أي اهتمام لها، سوى ما يتقاطع مع حاجته لسدّ فراغ ما أو الاستعانة بتفاصيل أو أشياء بعيدة عن رغبتها الشديدة به، وصدمتها اللاحقة به وبعلاقته المثلية مع جامي، والخيبة التي تخرج بها ولا تتخلّص منها في ما بعد.

الخيبة تظلّ ملازمة للشخصيات التي تظلّ حبيسة انكساراتها وضياعها وتشتّتها، وهي بذلك تعكس صورا من ضياع ملامح المدينة نفسها، تلك التي يتمّ نزع القداسة عنها، تراق فيها الدماء، تقع فريسة لحروب دموية وحشية لا تبقي فيها ما يمكن أن يكون مصدرا للقداسة أو مرجعا للتآلف والمحبة والتعايش.

يصوّر صورة رامبو المستشرق، المستعرب، المهرّب، أو تاجر السلاح، المشارك بطريقته في تأجيج اقتتال أخويّ في هرر ومحيطها، وذلك في تناقض سافر مع شخصية الشاعر الذي يفترض أنه مسكون بهموم إنسانية، ولا يورّط نفسه في تجارة السلاح أو التسبّب بإراقة أيّ دماء.

لا يستلهم حجي جابر شخصية رامبو، ويسبغ عليه صفة الحبشي، من باب التقديس أو التشويه، كما أنّه لا يمنحه البطولة المطلقة، بل يشرك معه شخصيات محلية حبشية، وذلك انتصارا لها، ومنحها الحيّز المستحقّ في سيرته التي لم تتطرّق لأيّ منها.

يؤثث صاحب “مرسى فاطمة” أمكنته الروائية بحضور طاغ لشخصياته، من دون أن يسلبها خصوصيتها المحلية، ومن هنا فتبدو هرر شخصية روائية بتحولاتها الغريبة التي جعلتها نموذجا لمدن تحمل مآسيها وترتحل معها عبر الأزمنة، محتفظة بملامحها على الرغم من قسوة الظروف التي تجتاحها عند كلّ منعطف تاريخيّ تمرّ به، أو يمرّ بها.

يوحي حجي جابر عبر سرده المحبوك بحقيقة وجود تلك الشخصيات التي لازمت رامبو وعاصرته وعاشت برفقته تلك المرحلة الأخيرة من حياته في أفريقيا والشرق، يضفي عليها حقيقة روائية، وكأنه يعيد كتابة ما سقط من سيرة رامبو في الحبشة، أو يتجيّش لجانبه الأفريقيّ الذي تمّ تهميشه في سير رامبو وأشعاره وحكاياته.

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم