لئن كانت أفغانستان قد شكلت في العقود الأخيرة مجالا خصبا للكتابة الصحفية الإبداعية، إلا أن كتاب أحمد فال ولد الدين الصادر مؤخرا عن دار عرب للنشر والترجمة، تحت عنوان: (حجر الأرض:صراع الغزاة والحماة في أفغانستان)، يعتبر إضافة نوعيةً في الكتابات التحليلية التي تدرس القضية الأفغانية، في أبعادها المختلفة.

يُقدّمُ الكتابُ قراءةً للأسباب والتداعيات التي قادت الأمريكان لاحتلال أفغانستان في العام 2001م، بعد صدمة الحادي عشر من سبتمبر، والتي كان من غرائب الأقدار معايشة الكاتب لتفاصيلها قبل عشرين عاما، وهو آنذاك شاب يافعٌ، مقيمٌ بالولايات المتحدة الأمريكية، وُصولاً إلى معايشته للحظة الانسحاب الأمريكي من كابول في سبتمبر 2021 م، فقد وفرت هذه اللحظات للكاتب مدخلا لفهم هذه القضية، من أطرافها المتعددة، ممَّا سيساعده أكثر على فهم عميق للعقلية الأمريكية في صدمته الأولى 2001 والتي قادته بشكل متعجل للولوج للكهف الأفغاني، وهو إلى ذلك يدرك بوعيه الحضاري، والثقافي الديني، ما يُؤهله لفهم أدقَّ للشخصية الإنسانية الأفغانية، التي امتلكت سماتٍ نادراً ما تتوفَّرُ لشعبٍ واحدٍ، فخلال المائة عام الأخيرة، تمكّن الشعبُ الأفغاني من هزيمةِ ثلاثِ امبراطوريات من القوى المهيمنة على العام، وتمكّنَ من إخراجها من أرضه، مذؤومةً مدحورةً.

سنحاولُ في هذا المقال التوقف بشكلٍ سريع، مع أهمِّ فصول هذا العمل الإبداعي الذي يُقدّم لوحةً فنيّةً، رائعةً، لقصة ملحميةٍ للشعبِ الأفغانيِّ المجاهد.

أحمد فال ولد الدين

يتكون الكتابُ من مدخل تمهيدي وثلاثة فصولٍ، وخاتمة وقائمة المصادر والمراجع، ويقع في 160 صفحة.

أولا: المدخل: في المدخل يقدم المؤلف ما يشبه مسوغات الكتابة عن الموضوع الأفغاني مازجا بين أسلوب تسجيل اليوميات وأسلوب كتابة الذكريات، مبرزا قطعا أدبية نادرة في الكتابات الصحفية هذه الأيام.

يتحدث في هذا المدخل عن دخوله مطارَ "كابلَ" أثناء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، يقول: ( تقدمنا بين جدران المطار السميكة، متجهين إلى بوابة الخروج. ما إن اقتربنا منها حتى نهرنا جنديٌّ أمريكيٌّ: إلى أين؟ مستغربا كيف يكون الآلاف من الناس متكدسين أمام البوابات حالمين بدخول المطار ونحن نخرج طائعين منه! أجبناه: نريد أن نخرج.. نحنُ صحفيون، قال الجنديُّ لأحدِ الزُّمَلاءِ: كنتُ أظنُّ الجُنُونَ مقتصراً على العسكَرِيِّين، أمّا الآن فَأَعْتَرِفُ بأنَّ الصّحفيين أجنُّ مِنَّا!

شعرت بالضيق من كلام الجندي لأنه أيقظ في تلافيف ذاكرتي أبيات العباس بن الأحنف: (تـ 192هـ/808) عن زيارته لخراسان، فكأنَّ الجنديَّ يرى أنَّ عينّ الزَّمان (= سوء الحظ) قَدْ أصابت من ينزل مطار "كابل" والناس عنهُ راحلون، تَجاوزتُ الجنديَّ مُقَلِّباً بَصَرِي في الحِيطانِ الطويلةِ، والجنودِ المُنتَشِرين في كلِّ رُكنٍ، مُتَمْتِماً بِأبْيَاتِ ابنِ الأَحْنَفِ:

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا


ثم القفول فقد جئنا خراسانا

ما أقدر الله أن يدني على شحط


سكان دجلة من سكان جيحانا

عين الزمان أصابتنا، فلا نظرت!


وعذبت بفنون الهجر ألوانا

مشينا إلى المخرج، فلاحت الصورةُ الكاملة.. آلافُ النَّاسِ يتدا فعون جهة البوابة التي نريد الخروج منها، آلافُ الأرواح المرهقة والعيون المتوسلة والأيدي المرتعشة الممتدة بحثا عن طوق نجاة. خرجنا دفعا بين الأكوام البشرية المتعبة، وروائح مكان تكدس فيه الآلاف أياما دون تنظيف.

التفت أحد الزملاء وقال: هذه الرائحة تذكرني بيالي منى ومزدلفة! حزت في نفسي عبارة زميلي، وتمنيت لو أن اللحظة مناسبة لأحدثه بالتفصيل عن ليالي "مِنى" قديما، فقد كانت ليالي إمتاع، وجمال، وعطور، وكانت من أكثر الليالي التي يَبْكِيها الشعراءُ لجمالها، وروعة مظاهرها، والشعرُ العَرَبِيُّ شاهدٌ على ذلك، خاصة شعر عمر بن ربيعةَ المَخْزُومِي ومن الأمثلةِ على ذلك، قول النميري الثقفي:

تَضَوَّعَ مسكاً بطنُ نعمانَ أَنْ مَشَتْ


بِهِ زَيْنَبٌ فِي نِسْوةٍ عَطِرَات!

تَهَادَيْنَ مَا بَيْنَ الْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى


وَأَقْبَلْنَ لاَ شُعْثاً وَلَا غَبِرَاتِ!


لكنِّي في حديثٍ مع نفسي أعرضت عن ذلك، فقد كان أحد زملائنا مشغولا بالتواصل مع زميلنا حميد الله شاه؛ المسؤول عن مكتب "الجزيرة" في "كابل" ليأتي لأخذنا...

شعرت بتعبٍ من الوقوفِ، فحاولتُ التَّرَاجُعَ لأَستندَ إلى الحائط، فصرخ جندي أمريكي مُسْتَلْقٍ قُربَ قَدمي تحت الحائط، أدرتُ عيني فلاحظتُ أنَّ الجنود المنهكين موجودون في كل زاوية، نائمون في كل ركنٍ من التعب الماحق، دَارَتْ فِي ذِهْنِي أسئلةٌ دالَّةٌ: هل تسلل شيء من الإرهاق إلى الإمبراطورية الأمريكية بعد طرحها لجنودها هنا؟ كيف لم تتسع عشرون عاما لرحيل منظم، هل فوجئت الولايات المتحدة برحيلها الذي برمجته منذ سنوات، أم هي صلابةُ الأفغانِيِّ وقُدْرَتِهِ الخارِقَةِ على تعكير مزاج الغازي. ابتعدتُ عن الجنديِّ المستلقي على التراب الغارق في النوم والظلام وأنا أفكر في قصة هذه الأرض مع الغزاة. لاحت لي جبال كابل متلألئة بعيدة شامخة مظللة بالعناد السرمدي. هل جاء غاز هنا وغادر طيب النفس قار البال؟ أم أن الأفغان ظلوا دوما أمة عصية على الترويض والاحتلال، "أمة حربية لا تدين لسلطة الأجنبي" حسب تعبير جمال الدين الأفغاني (ت1341/1897).

ويتنقل بك أحمد فال في مدخله التمهيدي مستعرضاً حَالَ الْبِلادِ الأفغانية وتاريخها مع الغزاة: (امتلأ ذهني بصور تاريخية مختلفة، صورة الجيش البريطاني الذي أبيد هنا في يناير كانون الثاني عام 1842م ولحظة خروج البريطانيين 1919م ولحظات انسحاب الدبابات السوفيتية في فبراير/ شباط عام 1989م.

لعنة الحسناء!

في الفصل الأول المعنون: (الأفغان زمانا ومكانا) يتطرق الكاتب للجغرافيا السياسية لأفغانستان، مستعرضا خصائصها البشرية، والتاريخية، والحضارية، الثقافية، والدينية.

يُشبِّهُ الكاتبُ الجغرافية الأفغانية، والموقع المحوري لأفغانستان، بالحسناء التي يتسبَّبُ جمالها في تعاستها، نتيجةَ تسلُّطِ حُسَّادِها..

كضرائرِ الحَسْنَاء قُلن لوجهها


حسدا وبغيا إنه لدميمُ


يقول: (إنَّ الموقع الجغرافي لأفغانستان يشرح محورتيها السياسية والاستراتيجية فهي أقصى نقطة شرقية من الهضبة الإيرانية، كما تتربع قرب جبال الهملايا، مما يجعلها بؤرة التوتر، والعبور بين إمبراطوريات الهند، والصين، ووسط آسيا، وروسيا، والشرق الأوسط، هذه الخاصية جعلت معظم الغزاة الأقوياء في التاريخ، يمرون من أفغانستان بدءًا بالإسكندر الأكبر(ت323 ق.م) ومرورا بجنكيز خان(624هـ/1227مـ) وانتهاء بجورج بوش الإبن2001م.

لقد انجذب الأقوياء عبر التاريخ إلى أرض أفغانستان الوعرة فدخلها الإسكندر المقدوني، وخاض المعارك بين جبالها الشاهقة، حتى انهزم جنوده، هزيمة مدوية. فغَيَّرَ بعد ذلك طريقته مع سكان البلاد، وتزوج أميرة من أميرات "بلخ" مُحاوِلا بذلك التقرُّبَ من السكان، ثُمَّ ترك البلاد بعد ذلك طالباً من جنودِهِ عدم ذكرِ الهزيمة التي تعرَّضَ لها بين جبالِ "الهندوكوش". ولعل أوامره تلك أول رقابة إعلامية، تصلنا عن ضيق الإمبراطوريات بنشر أخبار مصارع جنودها في أفغانستان).

وترتبط قصة أفغانستان مع الغزاة دوما ببعدين؛ أولهما: مكانتها الاستراتيجية باعتبارها ممرا بين صناع الحضارات القديمة، من هنودٍ في الجنوب وصِينيينَ في الشرق، وفُرْسٍ، وعَرَبٍ في الغرب، وثانيهما: بيئتها الجغرافية، والعرقية، التي تجعل البقاء فيها أمرا في غاية الصعوبة.

علاقة خاصة بالإسلام

إنَّ الإمبراطورية الوحيدة التي دخلت أفغانستان ولم تخرج منها يوما، هي الإمبراطورية الإسلامية، فمنذ عَبَرَ أصحاب محمد (صلّى الله عليه وسلم) على خيولهم السريعة مدينةَ "هراة" في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان (ت35هـ/656مـ)، وتوغَّلُوا في أفغانستان، بقيَّادةِ الشّابّ القرشيّ ذي الخمسة والعشرينَ عاماً؛ عبد الله بن عامر بن كُـــرَيز (ت58هـ/679مـ)، لم يخرج الإسلام ولا الأمراء المسلمون قَطُّ من تلك البلاد.

لقد لاحظ المؤرخون المسلمون باكراً العلاقة الاستثنائية بين الخراسانيين والإسلام، إذ يُقدِّمُ ابن الفقيه الهمداني (ت:340هـ/949مـ) مُقارنة طريفة بين الخراسانيين والإيرانيين، مُرجعاً ذَلك إلى لَحظة الاتصال الأولى بالإسلام، فيعرض صورتين متناقضتين لعلاقة الخراسانيين الشرقيين والفرس الإيرانيين بالإسلام فيقول عن أهل خراسان:

(ثم أتى الله بالإسلام فكانوا فيه أحسن الأمم رغبة، وأشدهم إليه مسارعة، مَنّاً مِنَ اللهِ عَليهِم، وتفضُّلاً، وإحسانا منه عليهم. فأسلموا طوعا، ودخلوا فيه أفواجا، وصالحوا عن بلادهم صلحا، فَخَفَّ خراجهم وقلت نوائبهم، لم يجر عليهم سباءُ، ولم يسقط فيما بينهم وبين المسلمين دمٌ وظلوا مع عميق تديُّنِهِمْ، أولى قوة وبأس في الدين حتى شاع وصفهم بأنهم: فُرْساَنُ الْهيْجَاءِ وأعِنَّةِ الرَّجَاءِ).

أما جيرانُهم الفُرس فيُقدّمُ عنهم ابن الفقيه صورةً مُعاكِسةً؛ فيها حقائق موضوعيةٌ، وفيها تحامل يقول: (إنَّ أوَّل أمرهم في الإسلام على ما قد علمت من شدة العداوة للمسلمين، ومحاربتهم إياهم، حتى قهروا، وهزموا، وطلبوا، ومَزَّقُوا (..)، فكانُوا كَنَارٍ خدمت وكَرَمَادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصفٍ، فتَبَدَّدَ جمعُهُم، ومُزِّقُوا كل مُمَزَّقٍ، فلم يبق في الإسلام منهم نبيهٌ يذكرُ، ولا شريفٌ يُشهر). ونص بن الفقيه هذا يؤكد خصوصية الخراسانية، وتعلقها بالإسلام بشكل يكاد يكون منقطع النظير.

ويُقَدِّمُ الكاتب في هذا الفصل دراسةً في خصائص المكان، قَلَّ ما اهتم بها كاتب من الكُتَّابِ المُعَاصِرينَ، رغم كثرة التأليف عن القضية الأفغانية، منذ أواسط الثمانينيات وإلى الآن، وتميَّزَت هذه الدراسة برجوعها للمصادر الأصلية، مُقدِّمَةً حفريات بحثية عميقة عن تاريخ المجتمع وتحولاته.

وقدَّم وصفا للوضع الجغرافي لأفغانستان، فثمة أربع مُدن تشكل مربعا مثيرا للعين والذاكرة، فتقع "هراة" غربا، و"بلخ" (مزار الشريف) شمالاً، و"قندهار" جنوبا و"كابل" شرقا. وقد لعبت هذه المدن أدواراً محورية في التاريخ البشري، وظلت –منذ القدم- مُدُنا قائمة، ومن أكثر حواضر العالم ازدهاراً اقتصاديا وثقافيا، غير أن التقارير الأمميةَ تُقدِّمُ أرقاماً صادمة، عن الحياةِ الاقتصادية، والثقافية في أفغانستان، وتحديدا في تلك المدن العتيقة.

ويستعرض الكاتبُ صفحاتٍ هامة عن تاريخ هذه المدن الأفغانية وما تعرَّضت له من غزوٍ مَغُولِيٍّ مُدمّر، وسنقتصر هنا على نص نقله عن المؤرخ الويس دوبري الذي يقول: (...فقد كان جنكيز خان القنبلةَ الذَّريّة في وقته، وما زالت جراحُ تلك القنبلة، وآثارها الاقتصادية، ماثلة في غربي آسيا ..، فالمدن الخَرِبَةُ، وقنوات الريِّ المطمورة، أتربة تقف اليوم، كتمثال لجنكيز خان".

وقد نبه ابن خلدون -وهو العالم بعلل الحضارة الإسلامية- على أنَّ فناء أعداد كبيرة من الناس دفعة واحدة بطاعون أو بغيره.. يقود إلى فناء الحضارة واختفاء خصائص المدن يقول: ( وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر: فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن..، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة ..، وكأنه خَلْقٌ جديدٌ ونَشأَةٌ مستأنفة وعالم محدث".

 طالبان والمرأة

يتناول الكاتب في الفصل الثاني تحت عنوان: "انبثاق حركة وميلاد وزعيم" نشأة حركة طالبان التي وضعت حدا لظاهرة حرب المليشيات الأفغانية المتصارعة، ما بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي 1989مـ.

يكشف الكاتِبُ مفارقةً عجيبة في تاريخ طالبان، فقد نشأت الحركة على خلفية اختطاف زعيم إحدى المليشيات المجاهدة لفتاتين واغتصابهن، دون أن يثنيه أحدٌ عن جريمته، بسبب تسلط المليشيات، غير أنَّ هذه الحادثة المؤسفة، حَرَّكَتْ غَيْرَةَ الملا محمد عمر فجمع ثلاثين رجلا بحوزتهم 15عشر بندقية، فانطلقوا واستخلصوا الفتاتين، وقتلوا القائد وعلقوا حثته على فوهة دبابة روسية مهملة في أحد شوارع المدينة، وبعد هذه الواقعة بأيام سقط أبرياء أثناء اشتباك بين قائدين مُتنازِعَينِ على حِيازَةِ غُلامٍ لاستغلاله جنسيا، فَقَام الملا عمر ومجموعته بتحرير الطفل، وقَتْلِ مُغتصبيه غَيْرَةً ودِيانةً، لا اسْتِرزاقاً وطمعا، كما جرت العادةُ.

والغريب أنه سيرتبط اسم طالبان في الإعلام الغربي لاحقا بالتضييق على النساء والضيق بهن في المجال العام ولكن التاريخ يحفظ للحركة أنها قامت في جذورها انتصارا للمرأة.

وبعد أيام من هذه الوقائع اجتمع الملا محمد عمر في "المسجد الأحمر" بـ"سنجيسار" خريف 1994م فكان إعلان الميلاد الرسمي للحركة، التي ولدت من ولادة طبيعية، باعتبارها استجابةً عملية لحالة الانفلات الأمني المُخيف، فلم تولد مشروعا سياسيا ذا رؤيةٍ فِكْرِية، أو سياسية، متبصرة، ولم يخطط مؤسسوها لحكم البلاد.

قامت الحركة في أسابيعها الأولى بتأمين المناطق التي سيطرت عليها ولم تطلب من أحد مالا مقابل التأمين، ولاقت احتضانا شعبيا، واسعا، ولعل القصة التي أوردها السفير عبد السلام ضعيف في كتابه: حياتي مع طالبان؛ توضحُ باختصار حقيقية ذلك الاحتضان والدعم الشعبي: ( ذات يوم وصل أحد الرجال إلى الحاجز الذي تسيطر عليه الحركة، يجر كيسا من المال خلفه، قدَّمه لنا ففتحناه، وبدأنا نَعُدُّ النُّقُودَ، فاق المبلغ التسعين مليون أفغاني! وهو مبلغ خيالي في تلك المرحلة، لم نكن نحلم بالحصول عليه. أدهشنا سخاء الرجل، وعرضنا عليه وصلا بالأموال التي تبرع بها والمعروف الذي أسدى إلينا رفض الرجل قائلا: تبرَّعتُ بهذا المال لوجه الله تعالى وحده، ولا أريد لأحد أن يعلم بما صنعت، لا حاجة لي بوصل، ولا أرغب في الإعلان عن اسمي)...

حجر الأرض: الملا عمر

في الفصل الثاني وعند حديثه عن زعيم طالبان ينقل المؤلف وصف مؤسس الدعوة العباسية لقائدها العسكري المظفر أبو مسلم الخراساني، المؤسس الفعلي للدولة العباسية بقوله: (إني جربت هذا الخراساني، وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حجر الأرض)!.

فالكاتب يعتبر الملا عمر نموذجا معاصرا للقائد العباسي الظافر وكلاهما خراساني.

واجه الملا عمر الحملة الأمريكية على أفغانستان 2001، بثبات وشجاعة منقطعة النظير، فقد وقف الرَّجُلُ في وجْهِ العاصفة، وثبت بين يدي جنوده، فلم يرض بالاختفاء، وفي نفس الوقت اتخذ الاحتياط الأمني اللازم للحفاظ على حياته التي أضحت رمزا لروح المقاومة، والجهاد، يقول الكاتبُ، وقد أخبرني مدير مكتبه يومها سيد طيب آغا:" أنه ذهب إلى أمير المؤمنين حيث كان "جالسا في المسجد لحظة قصف مطار قندهار. جئته بعد صلاة العشاء وجلسنا ننقاش ما علينا فعله لتأمينه. انصب رأينا على أن يخرج للاختفاء لكنه رفض بداية مقترحا أن يظل في بيته مشرفا على الجهاد حتى الاستشهاد، وبعد أخذ ورد اقتنع بضرورة الخروج، لكنه اقترح أن يذهب للجبال حيث توجد بيوت وأنفاق، كنا قد أعددناها، اعترضنا أيضا على ذهابه للجبال لانكشافها أمام الأمركيين الذين يصورونها دوما، ثم اقترحنا أن يختفي في إحدى القرى، فوافق على ذلك وطلب من الجميع التفرق مثنى وفرادى.

ويسرد كتاب حجر الأرض وربما لأول، مرة تفاصيل دقيقة، عن الملا عمر وقصة اختفائه عن الأنظار بقية حياته، وكيف كان ينطبق عليه قول المتنبي:

وقفتَ وما في الموتِ شكٌ لواقِفٍ


كَأنَّك في جَفْنِ الرَّدَى وهو نَائِمُ

مَرَّت على الملا عمر ثمان سنوات في خصه الصغير، على ضفة النهر متقيدا بالإجراءات الصارمة التي قررها رفاقه، ولم يتميز الملا بشيء كتميزه بالصلابة الشديدة، والإيمان العميق الذي لا تؤثر فيه الأيام، والأحداث، فمنذ عرفه رفاقه شابا متحمسا في التاسعة عشرة من عمره لم تفارقه خاصية من تلك الخصائص (كان الأمير رجلا عاديا غير مُثَقَّفٍ، ولا خطيب، لكنه كان تقياً زاهداً، ومُجاهدًا باسلا، كان يكره المظاهر الزائفة، والأُبَّهَةَ، ولذا عاش أيَّامَ زعامتِه دون ابروتكول، كان يضيق بالألقاب، فكانت ميزته في إخلاصه، وإيمانه، وصدقه).

مطلع 2013 اعْتَلَّتْ صحّةُ الأمير نتيجة مُكثِهِ لفترةٍ طويلةٍ في مكان واحد، اقترح عليه مرافقوه التوجه لمستشفيات باكستان، لكنَّه رفض، ثم أَسَرَّ لـعبد الجبار بأنه واثق من أنَّ هذا هو مرض موته، وفي 25 نيسان/ ابريل 2013 تُوُفِّي الملا عمر، ودُفن دون مراسيم أو تشييع في ذلك المساء، وبعيداً عن أنظار العالم، وضجيج وكالات الأنباء، سقط حجرٌ آخر من أحجارِ أرضِ خُرَاسَان .. توفي الملا عمر.

خَصَّصَ الكاتبُ الفصل الثالثَ لِعودةِ حركة طالبان إلى الحكم وعنوانه: العمائم المظفرة: عودة طالبان، وصدَّرَ الفصل بمقولةٍ لشكيب أرسلان: (لو لم يبق للإسلام في الدنيا عِرْقٌ ينبض، لرأيت عرقه بين سكان جبال الهملايا والهندو كوش نابضا، وعزمه هناك، ناهضا".

العمائم الظافرة 

ثم يَنْتَقِلُ لرصدِ وقع خَبَرِ انسحاب الولايات المتحدة على الشعب الأفغاني وجموعه وفي تفاصيل الخبر، انهيار جيشٍ مُكوَّنٍ من ثلاث مائة ألف عسكري مُدَرَّبٍ، أنفقت عليه الإمبراطورية الأمريكية تريليونات الدولارات، ليكون حارس النظام الذي أقامته، وأرضعته عشرين عاما، ثم ينهار في لحظة أشد ما تكون الولايات المتحدة بحاجة إليه، لتأمين انسحابها من أفغانستان دون خسائر.

في فقرة بعنوان: (بين يرنارد الويس وابن خلدون) يتطرقُ الكاتبُ لمقارنته بين لحظتي مشاهدته داخل الولايات المتحدة 2001 للحالة النفسية، والانفعالية، التي قادت الولايات المتحدة لغزو أفغانستان، وحالة العودة للعقل، والاتزان، على لسان الرئيس السادس والأربعون، وهو يقدم خطابه ليلة 31 أغسطس 2021، مُحَدِّثاً شعبه عن أسباب انسحاب قواته من أفغانستان.

وجاء ختام الكتاب على النحو التالي: (... فكرةٌ واحدةٌ تُثقِلُ ذِهني، لماذا ينجح الأفغان دوما عن طرد الغزاة، ثم يَفْشَلُونَ بعد في إقامة دولة العدل والاتفاق؟ ينجحون نجاحاً باهراً في إبطالِ الباطلِ، لكنهم يكبون حين يصلون لإحقاق الحق. فهل ستكون هذه المرة استثناء؟ أم إن التاريخ لا يمل من تكرار عاداته).

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم