عبدالله العقيبي

في ظل التعاسة السردية العربية الحالية عامة والمحلية خاصة (تعاستها بالمقارنة مع سابقتها وليس مع غيرها في اللغات الأخرى، فهذ مسألة أخرى) يتحفز الواحد عندما يجد رواية صادرة لكاتب من خارج مجموعة الروائيين المكرسين، الذين يتسابقون داخل حلبة السباق الروائي المحموم، والذي تغذيه الجوائز المحلية والدولية، هذا الحماس هو ما جعلني أقدم على قراءة رواية السعودي عبدالله آل عياف "حفرة إلى السماء"، دار رشم ومسكيلياني 2020، والتي كانت ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية في دورة 2021.

وكوني أتهم نفسي وأجهدها بالمتابعة، أتحفز دائما للأسماء الجديدة، أو الأسماء التي تأتي من خارج الحقل، وأعتقد أن هذا طبيعي ومنطقي، طبيعي لأنني مصاب بخيبة الأمل من السرد الروائي العربي في اللحظة الراهنة، ومنطقي لأنني أسأل نفسي دائما من أين ستأتي الأعمال المنقذة، التي تجعل المشهد يخجل من نفسه.

وللأسف لم تكن "حفرة إلى السماء" منقذة ولا محرجة للمشهد، بل جاءت مليئة بالمشكلات السردية التي سأحاول وصفها هنا، لا بنجوم من 1-5 ولا بكلام مطاطي، مثل أعجبتني ولم تعجبني، أحببتها ولم أحبها، ولا بطريقة النقد ما بعد الحداثي الذي يزعم قراءة الأعمال على حالتها بما فيها من صحة واعتلال، بل بالطريقة التقويمية التي تتوخى الصدق وتتحرى إعطاء الأعمال الإبداعية منزلتها الحقيقية، وتضعها في مكانها الذي تستحقه دون زيادة أو نقصان، مستعيناً على فعل ذلك -ما استطعت- بالمعايير المنهجية، من غير طرح ذوقي الشخصي جانباً، وأعرف أن هذا الفعل يكلفني غضب بعض الأصدقاء أو عتبهم في أقل الأحوال، وكم قلت لنفسي لماذا لا أضع نجوماً وأكتفي، لكن هذا الحاصل، على أمل أن يتفهم الأصدقاء الغاية !

بنية الحكاية

هناك روايات تتعمد إضاعة بنية الحكاية، وتحاول تعويمها، منطلقة من هدف تجريبي فني، فما فائدة ضبابية الحكاية في رواية تقليدية يشبه سردها الحكايات الشفاهية الشعبية؟! كنت سأتسامح مع الحكاية لو كان اسم الرواية مرتبطاً ب "مجهرة" المكان الذي تدور فيه أحداث الحكاية، والذي جعل المكان يلعب دور البطولة، فكل شيء في الرواية، الشخوص والأحداث والزمان منطلقه من المكان، فإذا كان المكان بهذه الدرجة من الأهمية، لماذا لم يربطه الكاتب باسم الرواية؟! بدلاً من ربطه بالعنوان المجازي، الذي يلمح لحدث ولادة الطفل "غيث" في القبر الذي كان سيدفن فيه جده عندما سقطت أمه "تيماء" فيه، وهو حدث على أهميته في العمل لا يعد مركزاً قوياً للحكاية كما هي داخل النص، صحيح أن الكاتب ذكرها في أكثر من موضع، لكنه لم يعتمد عليها كجوهر للحكاية، ما جعلني أتساءل وحتى نهاية الرواية، ما دور الحفرة التي تنظر إلى السماء، وما جدوى وجودها كعتبة رئيسة للعمل؟!

وأتصور أن العناوين المجازية دائما ما تقع في هذا الفخ الفني، فالروايات ذات العناوين المجازية إذا لم يتجانس النص السردي معها، ويكون ضمن نسيجها، مثل الروايات الشعرية، فلا طائل منها، بل تدل أحياناً على توهان الكاتب وضبابية الحكاية المركزية بالنسبة له، وهذا ما لمحته في هذه الرواية، ففي ظل غياب مركزية الحكاية تحولت الرواية إلى سرد عبثي يتناول في كل فصل حياة الشخصيات ومآلاتها دون خيط رابط أو عودة للحكاية المركزية.

التقطيع السردي

في ظل غياب الحكاية المركزية، كان من المنطقي بروز آلية التقطيع السردي، ولا مناص من ذلك في هكذا نص، خاصة وأن الروائي من صناع السينما، وهذا التقطيع كان سيفيد الرواية ويجعلها رواية حديثة من حيث المفهوم، ويصهر الخط الفاصل بين السرد الروائي والصورة السينمائية، لكن تقليدية الحكاية أولاً، وأخطاءها الزمانية، جعلت للتقطيع السردي وظيفة تهويمية، تروم إخفاء العيوب، وليس التماس الجمال، ففي أعمار الشخصيات ولحظات التقائهم وافتراقهم تضارب زمني واضح، تم تهويمه بآلية التقطيع السردي، فبدت بعض الشخصيات أكبر من عمرها المنطقي في الحكاية، وبدت شخصيات أخرى أصغر من عمرها، وعلى مستوى التقاء الشخصيات ببعضها، كيف التقى "الأستاذ ظافر" ب "غيث" وعاش معه سنوات المرحلة الابتدائية وهو لم يمكث في "مجهرة" سوى ثلاث سنوات؟! أتصور أن التقطيع السردي آلية تمكن القارئ من قراءة النص السردي ككتل جمالية منفصلة، يمثل انفصالها جمالية مضافة للحكاية، من هنا فهي آلية تحتاج حكاية غير تقليدية، تحتمل إمكانية هذا التقطيع، أما وجودها مع نص تقليدي أو حكاية شعبية من حكايات القرى الشفاهية فالأمر يبدو معيباً.

المبالغات اللغوية

تعج الرواية بالمبالغات اللغوية، ولا بأس بالمبالغات لو كان هناك ما يوازيها من جهة الأحداث، وعادة ما تأتي هذه المبالغات في بداية الفصول، يقول :"لكل قرية مجنونها إلا مجهرة كلها مجانين"، وحين تفحص الأحداث بعد هذه الجملة الرنانة تتوقع أحداثاً فيها القدر الكافي من الجنون، لكن الحاصل تتمة للأحداث التي يبدو الجنون أقل صفة فيها، وإذا ما كان فيها من جنون فهو جنون منقوص لم يخدمه الوصف ولا سلطة الاقناع، وكأن فكرة الجنون كانت في رأس الكاتب لكنه لم يضعها على الورق، وأعتقد أنها كانت مهمة ممكنة لو استطاع الكاتب أن يقفز نحو الحرية ويخترق التابو، لكنه لم يفعل، بل والأكثر من هذا أنه لم يحاول أن يفعل، فعندما وجدت "سوير" في سيارة زوجها شيئاً نسائياً وصفه بقوله : "وجدت في المقعد الخلفي شيئا لا يفترض البتة لرجل صالح أن يحصل عليه"، ذكرتني هذه الجملة بروايات الأدب الإسلامي التي ظهرت في حقبة سابقة، وفي الرواية عشرات الأمثلة على هذه المبالغات الخالية من جوهرها ومعناها.

رواية القليل من كل شيء

إذا ما ابتلاك الله بمتابعة الروايات العربية الصادرة مؤخراً، فستجد أغلبها روايات فيها القليل من كل شيء، القليل من معرفتك بالشخصيات، القليل من تصديقك للزمان والمكان والحكاية، القليل من التقنيات الحديثة، والقليل في هذا الجنس الأدبي تحيداً مشكلة لها علاقة بمدى فهمه الحقيقي، فليس الروائي مطالباً بالاقتصاد، بل ربما غُفر له تبذيره مقابل بشاعة التقليل، في الروايات المترجمة تشعر أن الكاتب يمهد لفكرة يريد تمريرها بعدد كبير من الصفحات، وربما أنفق فصلاً كاملاً ليؤسس لها، في الروايات العربية - وحفرة إلى السماء منها- غالباً ما ينتقل الكاتب اعتباطياً، قبل أن يشبع ذهن القارئ، وكأن الكاتب عجول وغير مستمتع بالكتابة، وهذا التقليل والابتسار مع تراكمه، يجعل القارئ يعرض عن الرواية ويتململ منها، وهذا ما شعرت به مع رواية آل عياف، لدرجة أنني فرحت عندما انتهيت منها.

ومن دلالات التقليل المخل في الرواية، والتي أغضبتني شخصياً، هوس "فرج" بالسيارات ومدى تعلقه بها، والذي ينتهي بعدم معرفتنا حتى بأنواع وموديلات السيارات التي اقتناها، وهذا الهوس موضوع روائي من الدرجة الأولى ينفق فيه الروائيون فصولاً، فكيف يتجاوزه العياف تماماً، وكذلك هوس "المعلم ظافر" بالكتب، لا نعرف حتى أي نوع من الكتب، وهذا ظافر تحديداً يعتري حكايته نقص هائل ومخل، فهو هارب من عائلته، دون معرفتنا للسبب المنطقي الذي يجعل رحلته العكسية من المدينة للقرية ممكنة ومقنعة، وهذا مفصل مهم فلا أحد يمكنه التغني بالقرية بهذا القدر، إلا ووراءه سبب جوهري، والكاتب لم يعتني بهذا ولم يعره حتى القليل من الاهتمام، وغير ذلك من المشكلات التي أعتقد جازماً أن سببها التقليل والابتسار.

أخيراً

كتب (رضا الحسني) على غلاف الرواية الخلفي: "مجهرة مسكن الأساطير ومقبرة الأحلام، فيها من أساطير الأولين والآخرين وحكايات الجن ورؤى الصالحين وقصص القادمين إلى هذا المكان اللغز، قرية كبطن الحوت تبتلع الناس ولا تعيدهم إلا في صورة ذكريات أو رموز أحلام ترى فيها الإنسان كالذئب تارة يأكل لحم أخيه وطوراً يحنو عليه فإذا هو حميم ...".

مثل هذا القول الإنشائي الذي يمكن سحبه على أي حكاية شعبية، هو البلاء الحقيقي الذي يوقع القراء في الخديعة، فليس في الرواية أي ألغاز، ولا ترتقي حكايتها إلى مستوى الأسطورة، كل ما هنالك حكاية مفككة مليئة بالتناقضات، تورث الهم والوجع، ولا تستحق الوقت المهدر في قراءتها، ولطالما كانت قراءة النصوص الرديئة تورث هذا الشعور الذي يوصلنا إلى حالة اللاجدوى وفقد الأمل!

عن صفحة الكاتب على فيسبوك


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم