لم يكن اجتياح وباء كورونا للعالم منذ عامين تقريبًا مجرد حادث عابر، بل كان _ كما نعلم جميعًا_ حدثًا قويًا مؤثرًا، فرض حضوره وسيطرته على الجميع، وترك آثارًا لعلنا لانزال نعاني منها حتى اليوم، وكان الشعور الأكبر الذي سيطر على الكثيرين في ذلك الوقت أن ثمة نهاية للعالم يتم عيش تفاصيلها المؤلمة، وبالرغم من أن تلك النهاية تم تجاوزها في الوقت الراهن، إلا أن ظلال تلك النهاية لاتزال جاثمة، وآثارها لا تزال باقية، ولاشك أن الأدب والرواية بشكل خاص كان لها دور كبير في رصد وعرض شيء من تفاصيل تلك النهاية، أو محاولة استشراف ما سيكون عليه المستقبل المقبل على نهاية درامية على هذا النحو.

في روايته الجديدة (حارس الحكايات الأخيرة) ينتقل بنا أحمد الملواني إلى تصورٍ مغاير ومختلف لنهاية العالم، تصور جديد ينطلق من الحكاية وأثرها وإليها يعود، ينطلق من قصة خيالية للقرية التي تعيش على شاطئ البحر ويهاجمها وحش يأكل أبناءها واحدًا واحدًا، ويصل إليها الرواي أخيرًا ليستكشف بعلمه ومعادته الحقيقة، ويجلو أمرها بالطرق العلمية الرصينة، فإذا به يغدو واحدًا من ضحايا هذه القرية أيضًا، وإذا بالعالم فعلاً يعيد التشكل هناك على هذه الأطراف بين البحر واليابسة داخل بطن ذلك الوحش الخرافي الذي يتضح أنه الحوت!

مزيج الواقعية والفانتازيا 

منذ البداية نحن إزاء راوٍ هارب من حكايته وأحزانه، يرفض أن يصدق حكايات أهل القرية حول الوحش وما يدور فيها، ويؤمن بتجربته العلمية وأنه قادر على إنهاء هذا العبث في أيام، ولكن الرحلة تبدأ لنجد أنفسنا إزاء ثلاث حكايات متصلة منفصلة، يحكي كل بطلٍ فيها حكايته ويكشف فيها أسراره الخاصة، ولكن ليس ذلك أمام الناس أو على الملأ، وإنما في برزخٍ جديد، تم صنعه والإعداد له بعناية ذلك هو بطن الحوت الضخم!

وهكذا يجد القارئ نفسه بين حكايات واقعية وشخصيات مرسومة بدقة من جهة وبين عالم خيالي فانتازي يأخذ من الواقع تفاصيله ويبني عليه، ويبدو اختيار بطن الحوت في ذلك السياق مناسبًا جدًا لطبيعة الحياة في القرية المشرفة على البحر من جهة، ولطبيعة تعامل القارئ مع الفكرة من جهة أخرى، إذ تستدعي على الفور تجربة نبي الله يونس الذي التقمه الحوت (فنادى في الظلمات ألا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) في الرواية تحضر الظلمات ويتوه الثلاثة في بطن الحوت، ويبدأ كل واحدٍ منهم مسعاه في معرفة الحقيقة، وهكذا يبدو توازى ما حدث لنبي الله مع شخصيات الرواية، بدون أي إشارة له، ولكن ثمة خطئية ترتكب في حياة الأبطال، وهناك سعي للتخلص من تلك الخطايا بمواجهتها وبالحكاية التي تبدو الخلاص الأخير، ويبرز هنا الحوت وكأنه رب الاعتراف، أو "حارس الحكايات" على نحو ما سمّاه الكاتب، ولكن ليس لكي يصل بهم إلى نهاية العالم، بل ربما لكي يمهد لهم بداية جديدة أخرى!


(نهضت واقفًا من جديد، أحاول خرق الحجاب الأسود بنظري لا شيء سوى بقعة مقلقة أكثر سوادًا وأكثر كثافة من ظلام الليل المعتاد وكأنما حائط من الظلمة وضع أمامنا قبل أن تفتح فيه فجأة طاقة نور لم يكن نورًا كثيفًا، كان لمعانًا رقيقًا، وبياض له شفافية صافية، تترك مجالا لمساحة من الانعكاسات، أرى عليها انعكاس ملامحي، ومن خلفي رضا وجسده المرتجف حقيقة أنها لم تكن طاقة نور كما ظننت في البدء، وإنما كانت عينه! وهذا يعني أن جدار الظلمة، كان جانبا صغيرًا من رأسه!

جلست بجوار رضا أرتجف مثله ولولا قدر ضئيل من خجل، لألقيت جسدي في حدود جسده بحثًا عن شذرات أمن لقد كنا نحدق في عين بحجم قاربنا نبتت من الظلام، أو تحديدا من جبل أسود خرج من الماء، في لون الظلام رضا لم يعقه الخوف بعد كل هذا عن اتخاذ رد الفعل الأسرع، فخر ساجدًا أمام البدن العظيم الطافي أمامنا.من الرواية 

نهاية العالم.. واكتشاف الذات 

هكذا تبدو فكرة نهاية العالم بالنسبة للملواني وسيلة جيدة بل وفرصة لاستعادة اكتشاف الذات والاعتراف بالأخطاء بالنسبة لأبطال حكايته، ومن خلال تقسيم فصول الرواية على أصواتهم وتقديم كل حكاية بعنوانها الخاص، من الصياد العجوز إلى البحار إلى العجوز الطيبة، نتعرف على حكايات مختلفة، يتم عرضها بأسلوب شيق، وباستخدام ضمير المخاطب الذي يورط القارئ في الحكاية، لشعوره أن داخل ضمير صاحب الحكاية الذي يبدو وكأنه يحدث نفسه، وتبدو حكاية كل واحدٍ منهم وكأنها أمثولة للعديد من حكايات الناس في العالم، فالظلم الذي يلقيه البحار على حبيبته ثم زوجته يتشابه مع حكايات كثيرة نسمعها ونعرفها، وكذلك الموسيقي العجوز والواعظ وذلك الصراع الهادئ المستمر بين الدين والفن في كل زمان ومكان، وتلك العلاقة شديدة الخصوصية بين الأم وابنتها ومحاولة كلٍ منهما لاستعادة نفسها وإعادة تعريف الخطئية ومحاولات تبرئة النفس!

(أنا الصغيرة الحالمة ابنة الثمانية عشر ربيعًا، أسكن -وحيدة- في بطن حوت، أنام في حطام القوارب، وآكل السمك النيئ، وأشرب من ماء المطر المتسلل إلى جوفه، ممزوجًا بلعابه لكني سعيدة، أعيش حلمًا جميلا لم يراودني من قبل هل هي فرحة الخروج من قيد الأم وتسلطها؟ هل هو ترقب فارس الأحلام، أميري المجهول الذي وعدني الحوت به؟ لا أعرف، ولم تعد تعنيني المعرفة، طالما أنا سعيدة) من الرواية

على مدار فصول الرواية القصيرة يتقن السارد عرض تفاصيل حكايات أبطاله، ورسم عالمهم، وننتقل مع كل شخصية للتعرف على مشكلاتها وحكايتها، كل ذلك بسلاسة وسرد شيق يبقى القارئ مشدودًا حتى السطور الأخيرة من الرواي كي يتعرف على ما ستنتهي إليه هذه الحكايات، وتلك المفارقات المختلفة التي يمزج فيها ببراعة بين الواقعي والفانتازي، وهو الأمر الذي عرفناه من قبل عند الملواني في رواياتٍ سابقة.

تجدر الإشارة إلى أن ما قدمه الملواني في روايته يواصل ما بدأه من قبله عدد من الروائيين والكتّاب الشباب في مصر تحديدًا ممن شغلتهم فكرة نهاية العالم تلك، وحاولوا عبر أطروحاتٍ سردية مختلفة أن يضعوا أو يرسموا تصورات مختلفة لتلك النهاية المحتومة، أذكر من ذلك ما قدمه أحمد سمير سعد في روايته (شواش)* حيث اختلطت النهاية عنده بالانهيارات والدمار الذي تنبأ به بطل الرواية أستاذ الرياضيات الجامعي، أو النهاية التي رصدها محمد إبراهيم قنديل في (ظل التفاحة) حيث طوفان يدمر العالم ولا يبقى في النهاية إلا الراوي وبطلة الرواية يعيدان سويًا قصة الخلق، أو قراءات أخرى قدمها كتاب آخرين، مثل أحمد صابر في (مدينة العزلة) و مصطفى منير في (تلاوات المحو) وغيرهم.

أحمد الملواني روائي وكاتب مسرحي مصري، صدرت أول أعماله (زيوس يجب أن يموت) عام 2010، حصل على جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة عن مجموعته القصصية (سيف صدئ وحزام ناسف) عام 2011 والمركز الأول في جائزة أخبار الأدب عن روايته (وردية فراولة) عام 2015، والمركز الأول في جائزة ساويرس الثقافية عن رواية (الفابريكة) عام 2019. كتب للمسرح تياترو مصر وشاش في قطن وغيرها.

ـــــــــــــ

رواية حارس الحكايات الأخيرة صادرة مؤخرًا عن دار كتوبيًا، وموجودة حصريًا عبر تطبيق أبجد. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انظر: (من الفوضى إلى المحو .. روايات مصرية رسمت نهاية العالم على موقع إضاءات:

https://www.ida2at.com/chaos-wiping-egyptian-novels-draw-end-world/)

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم