شغلت الحارة ببعدها الثقافي والاجتماعي مكانة هامة ودالة في السرد العربي بشكلٍ عام، وفي الرواية المصرية بشكلٍ خاص، بل وأصبح من اليسير أن تكون معبرة عن المجتمع بل ننتقل منها إلى رؤية العالم، ولاشك أن كتابًا كبارًا يحضرون في تصوير وعرض الحارة المصرية والتعبير عنها بدءًا بنجيب محفوظ وصولاً مرورًا بالغيطاني وصولاً إلى أجيال تالية أحدث، وإذا كان العنوان هو الدال والحاضر الأساسي في الكثير من الروايات، إلا أننا لا نلبث أن نجد أثرًا أو آثارًا للحارة في روايات وأعمال أخرى قد لا تحضر "الحارة" بلفظها في عنوانها، إلا أنها تحضر كمكانٍ وبيئة بما تحمله من خصوصية ثقافية واجتماعية، توحّد مجموعة من البشر وتفرقهم في الوقت نفسه!

وما يقال عن الحارة يقال عن "أماكن" عديدة شغلت حيزًا بارزًا في الرواية مثل الزقاق والشارع والعمارة بل وحتى القرية والمدينة وغيرها من أبعاد مكانية يتم اختيارها وتحديدها من البداية حتى تصبح معادلاً موضوعيًا للتغيرات ومجالاً لرصد الصراعات الاجتماعية بشكلٍ أكثر وضوحًا وتركيزًا.

من جهة أخرى يمثل هاجس التغيرات التكنولوجية ومحاولة رصد آثارها وأهميتها على الأفراد والمجتمعات هاجسًا غائبًا إلى حدٍ ما في الروايات العربية، أو لم يشكل ظاهرة ملحوظة حتى الآن، رغم ما نشهده من تسارع واختلافات في طرق التعامل مع التكنولوجيا بشكلٍ يومي وسباقٍ محموم لايتوقف، لاسيما في السنوات الأخيرة، فلانكاد نلحظ إلا عددًا قليلاً من الروايات يتناول الظواهر التكنولوجية والعوالم الافتراضية وأثرها على المجتمع، على نحو ما فعل شريف صالح منذ سنوات في "حارس الفيس بوك" 2017.

ربما يختلف الأمر بعض الشيء فيما يتعلق باستشراف المستقبل، أو ما يسمى برواية الديستوبيا التي ظهرت بشكلٍ واضح في عدد من الأعمال الروائية العربية مؤخرًا، وكانت كلها تدق ناقوس الخطر وتشير إلى النهايات السوداء الكابوسية التي سينتهي إليها البشر، يحضرني هنا ما قدمه محمد ربيع في رواية عطارد 2015 مرورًا بشواش أحمد سمير سعد 2016، وصولاً إلى الهروب من الطريق الدائري كريم كيلاني 2020.

وهكذا من الحارة المصرية، وعبر رصد وتأمل تفاصيل علاقتنا بالتكنولوجيا وشبكات المعلومات، مع قدر من استشراف المستقبل، يكتب محمد عبد العاطي روايته "حارة عليوة سابقًا"، وهي روايته الثانية، سبقها "تريند" التي يتضح من عنوانها اهتمامه بهذا العالم بشكلٍ أساسي، عالم وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها على الأفراد والمجتمع.

يعود محمد عبد العاطي بالزمن سنواتٍ إلى الوراء، ليرصد كيف كانت البدايات، ومن خلال لقطاتٍ ذكية ومكثفة يعرض عبر تسع فصول ما طرأ من تحولات في طرق تعاملنا واستخدامنا لعالم التكنولوجيا، كل ذلك داخل إطار حارة عليوة وسكانها، متنقلاً في الزمان ببساطة من لحظة البداية التي يختارها بإنشاء "بريد الكتروني" 2003 من خلال شبكة واحدة من شركات الكمبيوتر الحديثة، ثم وجود جهاز الكمبيوتر الذي يفرض وجوده في واحد من بيوت هذه الحارة البسيطة 2004، وكيف يكون التعامل معه، ثم رصد كيف تتغيّر علاقات الناس وتتداخل وتتشابك المصالح من خلال "وصلة الانترنت" 2006

ثم يقفز بنا عبد العاطي قفزة زمنية لست سنوات حيث انتشرت الهواتف الذكية وأصبحت في يد الجميع، بل وتحوّلت طرق البحث عن شريكة الحياة إلى تطبيق على الموبايل في 2012، حتى يصل بنا إلى التأثيرات الكبرى التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي ليس في حارة عليوة فحسب وإنما في العالم كله من خلال "الهاشتاج" العالمي ME_Too (وأنا أيضًا) عام 2017 والذي كان مخصصًا لمواجهة ظاهرة التحرش ودفع الفتيات لتحدي كل العقبات الاجتماعية والنفسية ومواجهة المتحرش وفضحه على الملأ وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وكان لذلك الهاشتاج أثر ووجود في حارة عليوة البسيطة وبناتها الذين واجهن تلك الظاهرة في أماكن عمل مختلفة.

هكذا ينتقل بنا محمد عبد العاطي في روايته من الخاص للعام، ومن الظواهر والمشكلات المصرية والتعامل معها إلى ما يمكن أن يكون انفتاحًا على العالم بتجاربه ومعارفه المختلفة، والتي كانت التكنولوجيا والانترنت أحد أهم أسبابه، وهو إذ يرصد ويعرض تلك المشكلات بتكثيف شديد يثير لدى القارئ الكثير من الأسئلة التي تتعلق بدور هذه الوسائل والوسائط التي فرضت حضورها ووجودها على يحاتنا وصبغتها بصبغة خاصة، قد لا تكون هي الأفضل بالضرورة!

عشرون عامًا تقريبًا، يرصد فيها محمد عبد العاطي من خلال محطات منتقاة بعناية عدد من ظواهر التكنولوجيا وأثرها على مجتمع وناس حارة عليوة، حتى يتوقف بنا في هدنةٍ تبدو مقصودة تمامًا، لاسيما بعد فصل مواجهة التحرش ومواجهة ظاهرة التنمر، الذي ارتفعت فيه وتيرة الأحداث بشكلٍ كبير، ينتقل بنا إلى هدنة "الآن" .. والتي نعرف أنها عام 2021 تقريبًا، وقت نشر الرواية، وفيها تظهر السياسة لأول مرة في الفصل الذي يحمل عنوان (شارع العلا ..حارة عليوة سابقًا) حيث نجد ابن أحد أثرياء حارة عليوة يجتمع بأفرادها لكي يرشح نفسه لمجلس الشعب، ويدور سؤال تهكمي بين بعض شباب الحارة ولكنه دال جدًا ( انتخابات وسياسة؟ لماذا؟ أمازالت هذه الأشياء موجودة أصلاً؟)

ولكن عبد العاطي يعرض هذا الاجتماع وما دار فيه بشكلٍ حيادي وذكي، تلك الاجتماعات والمقابلات التي ستنتهي بطائفة من الشباب الطامحين في التغيير الحريصين على إصلاح الحارة من خلال تغيير اسمها من "حارة عليوة" إلى "شارع العلا"، ورغم أن حتى هذا التغيير الهام والخطير لا ينجح فيه الشباب الواعد إلا أنه يبقى دالاً على ما وصلت إليه الحارة والمجتمع في التعامل مع مثل تلك الأمور.

كان جدي يسكن في بيت قديم في حارة عليوة، لسببٍ ما رفض الانتقال إلى السكن هنا في مدينة العلا، كما فعل معظم سكان الحارة تباعًا، لن أفهم أبدًا هذا الارتباط المرضي بالمساكن القديمة، نوستالجيا عقيمة، لو أن رجل الكهف تمسّك بحنينه لكهفه لظللنا نرعى في الجبال والغابات كقطعان الغوريلا دون أن نفكر في الاستقرار والزراعة والتجمع في قرى وإقامة الحضارات وكل وجع الرأس هذا!
قال جدي إن هذه البنايات الحديثة تشعره بالخوف بارتفاعاتها الشاهقة وذكائها الصناعي المخيف الذي يعطيها وجودًا نفسيًا لايمكن تجاهله، في زمنه لم تكن البنايات تصل إلى مئات الطوابق كما هو الحال الآن، لم تكن ذكية هكذا، لم تكن تتصرف وكأنها تراه وتسمعه، وهذا يخيفه.

لايكتفي عبد العاطي بعرض ورصد مظاهر وآثار ذلك التحول التكنولوجي على مجتمع الحارة البسيط، ولكنه ينتقل بنا في قفزةٍ أكبر إلى المستقبل، ليرصد بنفس الطريقة الذكية، ومن خلال مواقف حكايات بسيطة كيف تتحول هذه الحارة ومن فيها بعد انتشار تقنيات حديثة سماها الكاتب (الترا في آر أو الواقع الافتراضي الفائق) حيث لم تكن التسمية التي اقترحها مارك زوكربيرج قد ظهرت وانتشرت وقت كتابة الرواية، وهي ما عرفناه اليوم بتقنية (الميتا فيرس) وما تطرحه من تحديات وتغيرات في تواصل الناس وتعاملهم مع الانتقال بالزمان والمكان، ليس هذا فحسب، بل ينتقل بنا أيضًا نحو مائة عامٍ ليرصد كيف جنت هذه التحولات على حارة عليوة وغيرتها كليًا، بل وإلى أي مدى ستصل بنا هذه التكنولوجيا إذا قدر لها أن تسيطر على حياتنا بالكامل!

تميزت الرواية على الجانب الآخر بلغة بسيطة شديدة الرهافة، قادرة على التعبير عن الحارة المصرية بكل مستوياتها من جهة وقادرة على جذب القارئ لذلك العالم ومافيه من ثراء وجاذبية من جهةٍ أخرى، استطاع أن يعبر بها عن عدد من المشكلات المجتمعية الراهنة وأن يقدم صورة حية لا للواقع المعيش فحسب بل إلى المستقبل كذلك، كما جاء البناء الدائري أحد وسائل التي استعان بها الكاتب للفت انتباه القارئ وتركيزه، سواء في فصول الرواية القصيرة التي يبدأ كل واحدٍ منهم بجملة يأتي بيانها في التفاصيل الداخلية للحكاية، أو في بداية الرواية نفسها التي تستعيد مشهد لقاء الجد والحفيد مرة أخرى في نهايتها، وكأنه يهيئ القارئ لهذا الختام بشكلٍ واع.

وهكذا قدّم محمد عبد العاطي في عمله الروائي الثاني رواية مشحونة بالكثير من الشجن للماضي من جهة وتأمل الحاضر مع القلق على ما قد يكون عليه مستقبل البشرية لو استمر تحكم هذه التكنولوجيا فيها، وانتهى تفاعل الناس سويًا وتحول الجميع إلى ماكينات آلية وواقع افتراضي لا مكان فيه لمشاعر أو عواطف أو علاقات!

تجدر الإشارة إلى أن الرواية صادرة عن نهضة مصر حصل بها صاحبها على جائزة الدولة التشجيعية للآداب في مصر عام 2022.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم