من بين الروايات الأربع التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة غونكور هذا العام رواية الكاتب الهايتي لوي فيليب دالمبير “ميلووكي بلوز”، والتي كانت مرشحة بقوة للفوز بالجائزة، شأنها شأن رواية كريستين أنغو “الرحلة إلى الشرق” الفائزة أخيرا بجائزة ميديسيس، لكن الغونكور ذهبت إلى الكاتب السينغالي الشاب محمد مبوغار سار.

من منّا لا يذكر تلك الدقائق المريعة التي تناقلتها المواقع الاجتماعية ووسائل الإعلام في العالم عن شرطي أبيض يزهق أمام عدسة سمارتفون روح رجل أسود يستجديه بكلمات تغلب عليه حشرجة خنيق “لا أستطيع أن أتنفّس”، وهو جاث بركبته على عنق أسيره المنبطح أرضا مثل دابة منذورة للذبح، وينقّل نظرا متعاليا في كل من حوله، تحت ضوء الفوانيس الدّوّارة لسيّارات الشرطة الرابطة حذوه، وكأنه يقوم بمهمة إنسانية يستحق عليها الثناء؟

بطل بعد موته

من تلك الحادثة، حادثة مقتل جورج فلويد في مينيابوليس عام 2020، ومن حادثة مماثلة وقعت في نيويورك عام 2014، وراح ضحيّتها رجل أسود آخر يدعى إريك غارنر بنفس الطريقة الفظيعة، وكان قد نطق هو أيضا بنفس تلك الكلمات يسترحم بها ما تبقى في روح جلاده من إنسانية، دون جدوى، استوحى لوي فيليب دالمبير موضوع روايته الجديدة “ميلووكي بلوز”.

واستوحى الكاتب الهايتي عنوان روايته من أغنية “بلوز” شهيرة لعازف البانجو الأميركي تشارلز كليفلاند بول (1892-1931) وكان قد أداها قبل وفاته بسنة، وتتحدث كلماتها عن متشرّد عجوز طيب يدعى بيل جونس يحنّ إلى ميلووكي ويريد العودة إليها، وما زالت حاضرة في المخيال الجمعي، تتردد على ألسنة عدة مجموعات فنية معاصرة.

وقد جعل الكاتب قائمة تشغيل تضم عناوين عدد من أغاني “البلوز”، يدعو قراءه إلى الاستماع إليها أثناء قراءة روايته، حتى يتمثلوا مناخ الحزن الذي يرين على أبطاله السود في حيهم البائس.

وبالرغم من تنويه دالمبير في عتبة المدخل إلى أن عمله تخييلي صرف، فإن الجريمة التي هزت وجدان العالم وأوجدت حركة “حياة السّود مهمّة” حاضرة بجلاء في مناخ الرواية وأحداثها، وإن اختار الكاتب الاشتغال على شخصية الضحية والتعريف بها وبماضيها القصير أكثر مما اشتغل على جريمة الشرطي الأبيض.

الرواية تسرد حكاية رجل أسود في عقده الخامس، متزوج وله ثلاث بنات، راح ضحية العنصرية والعنف والظلم

 أضف إلى ذلك أنه لم يمنع نفسه من اتخاذ اسم البطل من اسم ضحية أخرى من ضحايا العنصرية، ألا وهو إيمّيت تيل (1941-1955) ذلك المراهق الذي قتله ومثّل به عنصريون بيض في دلتا المسيسيبي، ولم يكن قد بلغ الخامسة عشرة من عمره.

تسرد الرواية حكاية إيمّيت، وهو رجل أسود في السادسة والأربعين من عمره، متزوج وله ثلاث بنات، راح ضحية العنصرية والعنف والظلم. تبدأ من حيث انتهت حياته، أمام متجر صغير في حي شعبي بمدينة ميلووكي في ولاية ويسكونسن، عندما اتصل وكيله بالشرطة ظنّا منه أن الورقة المالية التي سدّد بها إيميت مشترياته هي ورقة مزورة؛ وفي لحظة أليمة، يقع الرجل بين يدي شرطي عنصري، فيجهز عليه كما أجهز الشرطي ديريك شوفان على جورج فلويد، بدم بارد، وقتل بطيء حتى أخمد أنفاسه، أمام أنظار العالم، بفضل الوسائل الإلكترونية الحديثة، العابرة للقارات في نقرة.

والأبشع من تلك الجريمة موقف الضابط غوردون، الذي لم يبد ندمه على قتل إنسان بغير ذنب، إذ اعتبر أن “موت الأسود” سيكلفه وظيفته وحياته العائلية.

والكاتب لا يتوف كثيرا عند الجريمة وتفاصيلها بقدر ما يفسح المجال لأقرباء إيميت ومعارفه للحديث عنه. كل من في الحيّ يتحدث بما يعرف عن الفقيد، فصلا إثر فصل، وكأنه يدفع حصّته من الذّاكرة الجمعية.

المعلّمة السابقة، وهي امرأة بيضاء حلت بهذا الحي منذ نصف قرن عند انطلاق الحركة المطالبة بالحقوق المدنية؛ حارسة السجن القديمة التي تحولت إلى راهبة تنشر المواعظ كما كانت من قبل توزع ضربات المقامع على المساجين؛ الفتاة التي عشقها ثم تخلت عنه لسواه؛ مدربه الذي كان يتوقع له مستقبلا باهرا في كرة القدم الأميركية المحترفة، لولا حادث تعرض له وأقعده مدّة طويلة، وحكم عليه بالبحث عما يضمن به قوته وقوت عياله، فصار يتقلب من عمل إلى آخر كسائر المواطنين الأميركان السود في سوق الشغل.

كلهم ذكروا طفولته المرحة في ظل أسرة ورعة، وحلمه بالنجومية الرياضية التي سوف تضمن له حياة مرفهة لاسيما أنه حصل على منحة بفضل تميزه في رياضته المفضلة، ومكانته في الحرم الجامعي، ثم تقلبه في سوق الشغل لضمان عيشه بطرق مشروعة، برغم الظروف القاسية. أي أن البطل حاضر في الرواية برغم صمته الأبدي.

الشهيد رمز كوني


الكاتب إذ جعل أحداث روايته تدور في حي فرنكلين هايتز بمدينة ميلووكي ومبانيه المتداعية وشوارعه المغبرّة، فلأنه يعرف تلك المدينة وأحياءها إذ سبق له أن درّس في أحد معاهدها، وخبر العنصرية التي تسكن أهلها منذ عشرات السنين؛ بيد أنه لم يعمد إلى كتابة سيرة الراحل، قدر ما ركز على أثر موته في المجموعة التي ينتمي إليها، والتي لم يكن لها اهتمام كبير بالشأن السياسي، قبل أن تهبّ هبّة رجل واحد لإدانة الجرائم العنصرية في مسيرة بدأت محلية ثم استشرت في سائر المدن الأميركية والعالمية.

الكاتب لا يتوف كثيرا عند الجريمة وتفاصيلها بقدر ما يفسح المجال لأقرباء إيميت ومعارفه للحديث عنه

 ولئن خصص الكاتب جانبا من الجزء الأول من روايته لوصف الحي الذي نشأ فيه البطل، فإن الجزء الثاني كان فيه استحضار كبير لكل من عانى القمع والظلم والقتل بسبب بشرته السوداء، قبل أن ينتقل إلى إعداد المسيرة التي سوف تخرج لتحية روح الفقيد، والتنديد بالجريمة، ولفت انتباه المسؤولين عن الأمن الداخلي ومنظمات المجتمع المدني، لأجل صحوة جماعية باعتبارهم “إخوة في المسيح” كما قالت الراهبة التي تولت إدارة العمليات.

 من خلال بطله، يحيّي لوي فيليب دالمبير ذاكرة ذينك الرجلين الأسودين، إيميت تيل وجورج فلويد، وكل الضحايا الذين تحولوا إلى رموز للميز العنصري في الولايات المتحدة، وحزن مكين يحمله كالثقل كل من جعلتهم أقدارهم يولدون ببشرة سوداء، تخالف بشرة المتزمتين والعنصريين من ذوي الأقنعة البيضاء والصلبان النارية. فالشهيد في نظر الجميع رمز أكثر ممّا هو شخص عاديّ، ولكن الكاتب ينجح في جعلنا نتصور أن من يختفي وراء رمز بتلك السعة الكونية هو في الواقع رجل عاديّ تماما.

والكتاب في النهاية أشبه بمرافعة من أجل الأخوّة والسلام، ودعوة إلى التسامح والمساواة بين كافة البشر أكثر من كونه مجرد رواية، وهو ما أضفى على “ميلووكي بلوز” نزعة إنسانية كونية.

عن العرب 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم