هل السيرة الإبداعية سعي للتجلي أم اكتفاء بالتعري؟

وفقت الكاتبة في اختيار العنوان لما يحمله رمزيا من قابلية لتأويلات مختلفة، لا يمكن اعتباره خلاصة عشوائية كنتيجة سببها وجود الأقفاص في حديقة المنزل وتحويلها إلى السطح وتغطيتها، ورغم ذلك قدم صاحبها لأخذها، وهو ما يدفع إلى التساؤل هل المنزل مستباح إلى هذه الدرجة؟ ولماذا لم تشعر بأية خشية من تسلل الغرباء إلى داخل المنزل؟

لا نجد بعدها داع لهذا الاستفهام، فالبداية في مجملها تشي أن الكاتبة لم تعرف كيف تهيئ لسيرتها مقدمة جديرة بالزخم الذي سيهل لاحقا، وقد يصرف القارئ النظر ولا يستمر في المطالعة لأن البداية متعثرة، وليست تلك سمة كما هو الحال عندما يبلغنا الارتباك والانفعال الذي يسعى الكاتب لمجابهته ليفسح للذاكرة مجالا للإفصاح بمخزونها.

في هذا السياق، غلبت تفاصيل علبة الشوكولا التي لا يمكن أن تشد والتي قد تمنح إحساسا أن فاطمة قنديل ستغرق قارئها في التفاصيل التي لا جدوى من ذكرها، وهي لم تفعل بل انساب البوح في اقتصاد لغوي قسمته إلى نصوص مختصرة، وهي نقطة القوة في هذا العمل على مستوى الأسلوب، ولا يعد ذاك فرادة، بل نلاحظ أن هذا الأسلوب غدا معتمدا من طرف العديد من الكتاب سواء سيرة أو رواية، فالحكي بالتقسيط يدفع الملل ويبشر- وإن مخاتلة- أن هناك تصاعد في الأحداث، ويضفي تشويقا ما، والأهم الانتقال من فكرة قد لا تكون مستساغة إلى غيرها.

أعود إلى العنوان وثرائه الرمزي، قد نكتفي بالمعهود من التأويلات التي يستدعيها قفص - وهنا لا بد من الإشارة أنها استخدمت الجمع وهو ما يضفي دلالاته الخاصة-، لن أستعرض الاحتمالات الممكنة لأن الهدف من فك الرمز ليس الإحابة، وإنما دفع لتوليد تساؤلات: ما قيمة قفص دون عصفور؟ قد يمثل وجود ساكن فيه أسرا للحرية وهو كذلك، لكن حضوره وحده يمنح للقفص حياة تماما كقلب في قفصه الصدري، ويوم يتوقف النبض وينعتق، يعلن الموت استبداده..هل الحياة عبثية إلى درجة افتقارها للمعنى الذي يزور ويشدو ليفلت وينعتق ويفسح مجالا لعدمية محببة/مقيتة؟

هل حوصلت علاقاتها جميعها واعتبرتها أقفاصا فارغة، لأنها لم ترث سوى قضبانا، وإن اعتقدت أنها خارجها، لكن مجرد ازدحام الذاكرة بأقفاص فارغة يؤصل فكرة الوحشة؟ هل تعمدت أن تطلق الذكريات وهي تكتب سيرتها مؤمنة أنها متى منحت حرية ستكافؤ بالمثل؟ ما قيمة ذاكرة شبيهة بقفص فارغ..وإلى غير ذلك من الاستفهامات التي قد نحصل على توضيحات بشأنها عن طريق البوح ولن نكتفي بتصديق اعتبارها أن الكتابة موت في معناه الضيق، فلو أنها آمنت حقا بذلك لما كتبت، لأنها وإن جربت الانتحار مرارا فهي رغبت في العيش بكل جوارحها لأجلها- وإن تعللت بالأم- لتعترف في لحظة من لحظات البوح أن رغبتها في وضع حد لحياتها لم يكن إلا هروبا ولدته الظروف التي تضاعف لحظة الضعف وتصيرها دهرا..
لكن للأسف أفقدت العنوان ثراءه بذاك العنوان الفرعي الذي لا موجب لذكره، بل ويقلل من شأن السيرة وقيمتها (ما لم تكتبه فاطمة قنديل).

لم التنصل؟

لن أناقش الأفكار التي لم أجدها شخصيا رائعة أو فاجعة أو فريدة، وإن وردت هذه الاعتبارات في قراءات كثيرة، لن أخوض في تجاربها الجنسية منذ الطفولة وإن بدا ذلك جيدا في سياق التصالح مع الجسد وعدم اعتباره عبئا أو قنبلة سينسف شرفها متى لمست، غير أن المسألة لا تخلو من خطورة خاصة من خلال الطريقة التي صاغت بها المواقف مستهينة بمواقف قد تتحول إلى إيذاء فاغتصاب..غير أنها لا تمانع سواء تقبيلا او عرض جسدها العاري،
ويكبر الاستفهام كالعادة عندما نتقدم في الاطلاع لا بحثا عن مبرر، فلها حريتها الكاملة ولن نصدر أحكاما، غير أني أتساءل عن تعريف الجرأة الذي حاولت تصويره، نجده في نسخته الأولى القديمة، وهو فعل كل ما يرفضه المجتمع ووضع له ضوابط فهي مستعدة لمنح جسدها ثم التدخين فالشرب، ليضيق معنى الشجاعة بل ويقصى، لأن المرء في هذه الحالة يسيء تقدير المعركة الوجودية ويحصرها في عناد ما تفرضه فئة من المجتمع مصنفة إياه في قائمة ممنوعات للأنثى على وجه الخصوص، لو فعلت ما أرادت وما تحدثت عنه لاعتباره حقا طبيعيا لا داعي لعرضه في مباهاة مبطنة مخفية، لحررت السلوك من فعل شانه لا لكونه يتعارض مع القيم المجتمعية وإنما لتبجحها به.

تبقى النقطة الأهم التي تحتاج حقا قراءة مستفيضة وهي مناقشة هذا الجنس من الكتابة الذي لا يختلف عن حفلات التعري في شيء والمتعة مضمونة للطرفين، من يتعرى ومن يقبل على هذا العرض بلهفة ونهم، تماما كالبرامج التلفزيونية التي تعرض فيها المشاكل الشخصية على الملأ، تستعر شهوة المتحدث فيعري ذاكرته، يبدأ في احتشام -قد يكون ادعاء- ثم ينبري في إلقاء الحدث تلو الآخر، وهو يعلم أنه كلما اختار الحدث الأكثر إثارة للانتباه يضمن لهفة المستمع/ القارئ للمزيد، وتنتشي هذه النوعية بآلام الغير كنوع من التنفيس "ولي يسمع مصيبة غيره تهون عليه مصيبته،" في سياق البحث المتواصل عن مسكن مخدر وهم مريح أو انتشاء يتولد من إحساس بدونية المتكلم مقابل فوقية من طرفه لا تبررها سوى مركبات النقص التي تسعى إلى التفريخ في الروح البشرية.. والمتعري الخبير قد ينسى الطرف المقابل، وتستبد به نشوته في سورة عبادة ذات، وإن ادعى أن ما يفعله غايته "مسخ الذكريات أصناما لكسرها" وأنه يأبى أن يغدو أن يتحول كلامه" قولا مأثورا"، وهي مغالطة جلية للنفس ولا يمكن للقارئ أن يصدقها فمن يريد أن يتخلص من ذكرياته لا يكتبها وينشرها فهو يخلدها بذلك.

يتمثل السؤال في هذا السياق: حين يقتصر دور الأدب في التعري، سواء اجتهد الكاتب أو استسهل، سواء قدم سيرة تضج وترج أو سمح لخواطره بالتداعي معتقدا بفرادة ما مر به- متجاهلا أن الفرادة تكمن في طريقة التعامل مع الحدث-، سواء لم يسرف في التفاصيل أو صب اهتمامه عليها ليضمن نصا طويلا محشوا بما ظنه زخرفا فتاهت الفكرة في الزحام الذي تعمده، ما نتيجة الانسياق لهذا النسق، هل نقيم على المخيلة وما تبدعه "مأتما وعويلا" لأنها بصدد الفناء وحتى إن جاهد البعض في الدفاع عن حقها في البقاء، هل ستقوى على منافسة شرسة لن يجد أصحابها حرجا في اغتيال الجمالية بفجاجة الاستسهال؟ هل السيرة الإبداعية جوهرها واقع يعتمل في المخيلة يسعى للتجلي أم هي اكتفاء بالتعري؟

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم