كلَّما استعصى عليَّ الأمر سألتُ جدتي:

- صِفي لي جدي؟

- يشبه الزعيم جمال عبد الناصر!

أجابت مختصرة الكلام على مبدأ ما قل ودل، ثمَّ صمتتْ، ولكن اضطربت روحها وتشتت نظراتها، تخيلتْ أشياء دعتها إلى الابتسام، بحثت بين الغيوم عن قطرة أمل، تأملت السماء، أطالت النظر فيها، ثمَّ ابتسمت. سألت الطفلة التي تريد أن تصدّق:

- تيتا، متأكدة أن هذا هو جدي؟

أجابت الجدة:

- مش عارفه يا تيتا يمكن يكون واحد بيشبه، لا مش ذات الصوت!

أجابت بحزن. لقد نسيت جدتي نبرة صوته، مسكينة جدتي، حاولت التذكر وأخفقت، استمدت صوته من صوت الزعيم حتى يبقى حيّا داخلها، مدّها الصوت بالأمل، وانتظرت. كلَّما خطب الزعيم، جلست أمام التلفاز وأنصتت إلى كل كلمة يقولها، حاولت التعرف إلى نبرة الصوت من جديد، صدّقت وكذّبت نفسها.

هذا الاستهلال أعلاه مقتبس من رواية الأديبة والروائية الفلسطينية - الأسترالية دينا سليم حنحن "ما دوَّنه الغُبار" الصادرة مؤخراً عن "مكتبة كل شيء" في حيفا على الساحل الفلسطيني من البحر الأبيض المتوسط، لصاحبها صالح عباسي، في خمسمئة صفحة من القطع الكبير.

يمكننا القول بأن رواية "ما دوَّنه الغُبار" وفيّة لعنوانها، نعم، هي كذلك بكل تأكيد، وفيِّة لعنوانها، لأنها تسجل ما تبقى ممّا دوَّنه الغُبار على مرّ السنين في الذاكرة الجمعية لأهل فلسطين وخاصة ما جرى من أحداث في مدينة "اللد" حيث حرصت الروائية دينا سليم حنحن على تسجيل ما تعرفه قبل أن تُذريه الأيام كما تفعل مع حصيد الفلاح على البيد، فيُصْبح هشيماً تُذْرِيه الرياحُ. الرواية -أو لنقل الروائية- تحكي تاريخ فلسطين، من ذاكرة المغلوبين، وبلسان أبناء مدينة "اللد" والتي ولدت فيها الكاتبة، وقد أصابهم ما أصاب غيرهم من المدن والقرى الفلسطينية عام النكبة، من تهجير غيَّر مصير حياتهم إلى الأبد.

بطلت الرواية الرئيسية الجدة "جميلة" التي سردت على مسامع حفيدتها حكاية عائلتها: عشقها لزوجها رشدي الذي يشبه الزعيم جمال عبد الناصر الذي غاب ولم يُعثر له على أثر، ووقوفها إلى جانبه في معارك 1948، إخلاصها ووقوفها الدائم معه في السّراء والضّراء. حكت الجدة "جميلة" سيرة أهل مدينة "اللد" الفلسطينية ما قبل النكبة عندما كانت الحياة هانئة، والعلاقات العائلية متينة ومترابطة. حكت عن دفاع أهل مدينة "اللد" المستميت عن مدينتهم، والمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في مسجد مدينة "اللد" وتجميع المواطنين في كنيسة المدينة، والناس الذين دفنوا أحياء، والآخرون الذين وقعوا بين ناري المقاومة والاحتلال.

في سردها لتلك الأحداث التي استخرجتها بصعوبة بالغة وبإصرار عجيب من الذاكرة الجمعية لأهلها وأقاربها ومعارفها في مدينة "اللد" اعتمدت الروائية دينا سليم حنحن على تقطيع الحدث الروائي من خلال أسلوب رشيق، طريف وذكي، هو "العنونة" بحيث جاءت عناوين "الأحداث والأمكنة" معبرة عن شوق دفين لمسح الغُبار عن تلك العناوين المنسية وإظهارها للأجيال الجديدة. هل اختارت هذا الاسلوب لأن أهل فلسطين ما زلوا إلى اليوم يحفظون عناوين بيوتهم وحاراتهم ويحتفظون بمفاتح أبواب بيوتهم التي تركوها، وبعد مرور عشرات السنيّن على النكبة مع ذلك يصرّون على تذكّر عناوينها.

الروائية الفلسطينية بنت مدينة "اللد" دينا سليم حنحن في رحلة حياتها ابتعدت كثيراً عن موطنها وسكنت في أستراليا وهي في أقاصي الأرض، ولكن فلسطين وأهلها بقيت هاجساً دائماً ما يؤرقها من هناك في موطنها الجديد أستراليا وفي مدينة "بريزبن" حاولت أن تكون لصيقة بمفاتيح الكيبورد ونجحت في ذلك. تقول: (من شيمي الهرب من أجل النجاة، هربتُ من الواقع المرير إلى عالم الكتابة) ثمَّ تتابع القول: (هجرتي إلى أستراليا لم تكن سهلة، ولم تكن عبثاً، فقد كانت هجرة أمل لإنقاذ ابني البكر من آلامه، وبعد 27 سنة من حياة المشافي رحل في المهجر هنا عن 36 سنة، ولكنه أيضا لم يكن مستسلماً، فقد أصبح، رغم سرطان الدم، مهندساً في علوم الحاسوب).

توفي باسم في المهجر قبل 6 سنوات، بعد صراع مع اللوكيميا منذ كان في السادسة من عمره، حيث لم تنفع كل العلاجات في فلسطين. ولم يكن الأمر سهلاً بكل تأكيد على سيدة كافحت طويلاً من أجل إنقاذ حياة ابنها، وتربية بناتها الأربع وحيدة في المهجر، إلى جانب تفكيرها ورغبتها بمواصلة رحلتها الأدبية، فالإرهاق النفسي والمالي، والتنقل بين الفنادق، جعلها وبناتها ينطلقن في الحياة من الصفر مجدداً. وعن تلك التجربة كتبت روايتها (جدار الصمت) ولكن الكدح والمثابرة سيجعلان من ابنتها "سوار" محامية فيما "زيزي" ستصبح طبيبة نفسية و "ريهام" محامية هجرة و "مارلين" طبيبة توليد.

تُضيف: (عندما تكون الكتابة في عين البعض جنحة، والمرأة مجرد صورة وشكل، والمرض لعنة، على القدر أن يتبدّل والدّفة بيد المرأة وحدها. سعيتُ خلف الأمل، وثقت بنفسي وتحققت أحلامي، كانت أحلامي بسيطة: الكتابة. أحلام صعبة من وجهة نظر الآخرين، الكتابة طقس مختلف، تحتاج إلى التفرغ والعزلة وتهذيب النفس والقراءة والمثابرة، لم أتمتع بكل ما ذكرته، لذلك قلبت الطاولة وهربت من القيود، سخّرتُ نفسي لهذا الطريق ولقبتُ بالمجنونة، رضيت أن أحيا الجنون، وعشتهُ، وما زلتُ مغرمة بهذا الجنون وأتمنى الاستمرار فيه، حلّقت مثل الطيور وتدربت على التحليق جيداً، كنف الحياة أرواح متمردة. لم أستطع غض النظر عن الأخطاء، لم تتماشَ روحي معها، فجنحت بعيداً عن السرب. حرّرتُ نفسي من القيود بالابتعاد عن الوطن، لم أملك خياراً آخر، رغم أنني حاولت كثيراً. هاجرتُ وتركت كل شيء خلفي، أكيدة أنني لا أستطيع تغيير نظرة المجتمع الذي تربى على ضرورة تدجين المرأة وحصرها في مواقع لا تشبه ذاتها. ما أُخِذ مني بالقوة استعدتهُ بالقوة، حريتي والكتابة وإخراج التراكمات من داخلي، تحررتُ بقوة القلم وأصبحتُ أشبه ذاتي)

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم