رجاء عمار- تونس

* الصدف: كم على القارئ أن يبتلع من طعم؟:
لو كانت الصدفة شخصية لمنحت دور البطولة في الرواية على جميع الأصعدة سواء تعلق الأمر بالوجهة التي تسلكها الشخوص الرئيسية دون استثناء أو ارتبط بخيار البوح الأوحد ألا وهو صفحات الدفاتر التي تلقى مصيرا متشابها تماما كتشابه ردود فعل أصحابها.

أليس هناك سوى ذاك الطبيب النفسي الذي توجهت الشخصية المنفصمة المقهورة لتستعين به فإذا هي تقدم إليه دليلا على معرفتها بالنظريات، فيتشبث الطبيب النفسي "يوسف" بهذا المريض دون غيره ليخبره بخبايا نفسه ولا ننسى أن نذكر أنها ليست إلا زيارة واحدة لم تطل، لكنها، حسب رأي المؤلف كافية ليتعلق الطبيب النفسي المأزوم بمخلصه المتأزم.

تتوالى الصدف التي اجتهد الكاتب ليغلفها بغلالة من تشويق أصر على اعتماده دون تنويع أسلوبي في خاتمة كل فصل حتى غدا كلازمة رتيبة تثير الملل لأن الغاية منها لم تتحقق بقدر ما كشفت عن رغبة في إطالة الأحداث وهو ما من شأنه السماح للملل أن يتسرب من هذه الكوة ومن غيرها من تفاصيل لا تضيف للحدث شيئا وإنما تفقده بريقه.

نتجاوز مسألة فرادة الفكرة وأصالتها فلا يخفى على القارئ منذ بداية تأزم الشخصية وانطلاق معاناتها الملموسة أن هناك إحالة إلى شخصيات عدة ضمتها صفحات روايات سابقة لعل أهمها Le Horla ل Guy De Maupassant و شخصية جواد في "كافكا في طنجة" لمحمد سعيد احجيوج، ونعتبر ذلك يرتبط بالسمة المميزة للشخصية ألا وهي التقمص..
لكن، قرار الانتحار الذي اشترك فيه مع "ناردا" في ذات التوقيت وذات المكان وعدم تنفيذهما للقرار وربط ذلك بوتد الصدفة، ألا يثقل ذلك كاهل المنطق؟

تنسى ناردا وهي طليقة الأب المنتحر دفترها، ونعتقد أنها فعلت ذلك عمدا لتسنح الفرصة للابن أن يتصفحه، ليأتي النفي والجزم أنها نسيته كما نسي زوجها السابق دفتره على الطاولة، هل ينطلي أمر هذه الصدفة على العاقل أو حتى المجنون؟

يقرأ إبراهيم دفتر الحبيبة وهي تتحدث عن أبيه وعملية انتحاره وما كشفته الجارة من رؤيتها لمشهد دفع الابن للكرسي وتذكر مقر الإقامة.. ومع ذلك لا يساور إبراهيم أي شك أن المتحدث عنه والده بل ويتفاجأ حين تكشف له ناردا ذلك.. هل القارئ غبي إلى درجة لا يتفطن فيها مع كل ذاك التكديس للأدلة إلى ماهو واضح؟

لم يجد إبراهيم - الشخصية الرئيسية- سوى يوسف الابن غير الشرعي- طبيبا نفسيا، هذا الطبيب الذي أزاح أبوه كشك الوراق وستشتغل الشخصية ليلى عند أمه.. إنها الصدفة مرة أخرى، وهي ذاتها التي جمعت قبل ذلك ليلى وإبراهيم ليكون منقذها وتحدثه عن تفاصيل حياتها في الملجأ وبعد خروجها منه!

اختيار آخر يخدم حبكة رشح منها الاختلاق من جوانب عدة حتى غدا  الاستمرار في السرد ليس سوى شكلا من أشكال قص الخرق لسد الثغرات العديدة لا غير، حتى تكتمل الصورة المرسومة مسبقا، فتتشكل لوحة  لا فسحة فيها بل تتناسل فيها ومنها الأحداث والتفاصيل التي لا تضيف سوى تشتيتا، فينكرها الذهن ولا يستسيغها لأن فيها تعمد جلي لرسكلة الأفكار دون تحقيق الانسجام المرجو، وإن نجحت في تأكيد أن المؤلف أراد أن يخبر بسعة اطلاعه..
في هذا السياق، وبما أنه سيعرض ملخصا للروايات التي يتقمص دور شخصيتها الرئيسية، أما كان من الأجدى على الأقل أن يلقي الضوء على روايات ما بلغت العالمية ولم يذع صيتها لكنها جديرة بالاهتمام؟

تتعدد أساليب تفاعل البشر مع الوقائع ويختارون دروبا متنوعة متاحة للتعبير، غير أن أغلب الشخصيات لا تجد متنفسا (وثلاثتها أي الأب والابن والطليقة يعانون اكتئابا) سوى التدوين..
تلعب الصدفة في هذا السياق دورها المعتاد، لكن، ما يجعلها لا تستساغ هو افتقارها للموضوعية، فقد يكون ممكنا استغلال ذات الوسيلة للبوح، بيد أن ذلك يتطلب قدرة من طرف الكاتب حتى بجعل لكل شخصية أسلوبها الخاص في الكتابة، وأن يلاحظ القارئ هذا الاختلاف، غير أن المتمعن يجد ذات الأسلوب بنفس الخصائص، وهو ما يضاف إلى قائمة الصدف التي أضعفت الحبكة لأنها جردتها من الإقناع.

نتساءل هل الإكثار حجة ثراء واقتدار أم سوء اختيار خاصة إذا جردت السرد من الإمتاع وأثقلته بالتراكم الذي يظهر جليا في عديد المواطن إلى درجة فقد فيها جمالية العفوية وسلاستها وبساطتها العميقة بل وتجاوز ذلك إلى التبذير الكلامي في شكل إعادة أو إسقاط رأي أو معلومة بمباشراتية لا ترتقي إلى درجة الفعل الإبداعي الخلاق.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم