هل يضيع التاريخ إذا لم يتم توثيقه؟ هل تحتاج الأجيال الجديدة إلى استعادة عرض وذكر أطرافٍ من تاريخنا القريب والبعيد، لكي نتعرّف من خلاله على واقعنا وكيف نواجه الصعاب والتحديات التي نمر بها؟! في جائحة كورونا الأخيرة التي ربما لانزال نعاني منها كم مرة استدعى الكتّاب والمحللون تاريخ الإنسانية مع الأوبئة قديمًا وحديثًا؟! ومع كل ثورة وحدثٍ سياسي كم نتذكر من تاريخنا ومآسينا القديمة والحديثة، ربما الأمر كما قال ابن زيدون يقضي علينا الأسى .. لولا تأسينا!

مغامرة روائية جديدة يخوضها الروايئ محمد إسماعيل، بعد أن طاف بنا في جوانب الصين وعرفنا معه طرفًا مما "حدث في شنجن" روايته الأولى، إذ به ينتقل بنا الآن نقلة زمانية ومكانية أخرى، إلى الجزائر التي عرفت بأنها بلد المليون شهيد، وفي فترة عصيبة وخاصة جدًا من تاريخها، وهي فترة ما عرف "بالعشرية السوداء" في التسعينات، وما حدث خلالها من صراعات مسلحة بين النظام الجزائري وجبهة الإنقاذ الإسلامي، و ما نتج عن ذلك من بطش وتهجير وهروب للكثير من الجزائريين هربًا من شلال الدم الذي تدفق عليهم من كل صوب!

الروائي محمد إسماعيل

يختار الكاتب هذه الفترة تحديدًا، ويحمل إليها شخصيات روايته، الثلاثة على اختلاف جنسياتهم وأفكارهم وتوجهاتهم ومصالحهم، ليدفع بالقارئ إلى استعادة هذه الفترة الحرجة تاريخيًا واجتماعيًا في الجزائر البلد الشقيق، الذي عرفناه سابقًا من خلال أعمال أدباء كبار مثل واسيني الأعرج و كاتب ياسين وحتى أحلام مستغانمي وغيرهم، لنتعرف على رؤية مغايرة بقلمٍ مصري يرصد التفاصيل بذكاء وينقلنا إلى عالمٍ مختلف ربما لم نسمع عنه كثيرًا لاسيما في روايات مصرية معاصرة.

تبدأ الرواية من هروب باهية المفاجئ الذي نعرف بعد قليل أنها تترك زوجها السكير وبناتها الثلاثة لتحصل على قدر من الحرية هناك في بروكسل مستبقية معها ابنتها "زهرة"، بينما تواجه ابنتها "فاطيما" مسؤولية أسرتها بشكل مفاجئ، فيما يعود الأستاذ المصري "محسن" إلى الجزائر البلد التي عاش بها وتربى فيها وأصبحت جزءً من حياته ليكون طرفًا في محاولات حل أزمته، فيما تواجه باهية في منفاها الاختياري ببروكسل واقعًا مختلفًا تحاول التأقلم عليه أملاً في مواصلة حياة آمنة من جهة، ورغبة في استقدام ابنتيها إليها بعد ذلك.

بين محسن وفاطيما من جهة وصديقتها فريال وحميد من جهة أخرى وما يدور مع زهرة هناك مغتربة، تدور أحداث الرواية ونعرف منها أطرافًا من ماضي كل شخصية أحيانًا، ثم يكون التركيز على اللحظة الراهن وما يعانيه الأبطال فيها من مشكلات، لاسيما عندما تتصاعد الأحداث بمقتل واحد من أبطال ومحاولات البقية البحث عن أسباب ذلك القتل رغم كونه غير مبرر في كل الأحوال!

تدور الرواية بين الرصد الاجتماعي لأوضاع أبطالها المأزومين في فترتهم التاريخية وما يمرون به من صعاب، وبين النقاش الهادئ الذي يأتي على خلفية تلك الأحداث والمواجهات، بين جماعات الإسلام السياسي وأنصارهم وبين السلطة الحاكمة وممثليها، نقرأ في الرواية:

الموت حق، لا يختلف على هذا ملحد أو مؤمن. أي أن من مات على يدك لم يستقدم ساعته ولم يستأخرها فهو ميت لا محالة، فقط تُرهبك حقيقة أنك قاتله. ما يُذهب روعك حقًّا ويخدر ضميرك هو يقينك بأن "لكُلِّ أجلٍ كتاب"، أنت فقط تضع نقطة النهاية في آخر السطر الذي لم تُسطِّره.. هذا ما استقر إليه يقيني أو قُلْ ما أراحني اعتقاده، كيف لا وهو حق؟

 كلمة الحرب المقدسة وحدها تكفي لأن تنتزع كل شك من قلبك فتقتل بلا هوادة، بيدَ أنها في واقعها طِلَّسْم يفهمه كلّ بطريقته. فحربنا مقدسة لأنها على الإرهاب، وحربهم مقدسة لأنها على الطاغوت الذي نمثله. ما الجديد هنا؟ وهل قامت حرب إلا وكان طرفاها على حق في اعتقادهم؟ وكلما اشتدت وطالت تُنسِيك فِيمَ نشبت، فالكل مُثخَن ومكلوم ما عاد أحد يفكر لِمَ بدأنا، فالمهم هو ألَّا نتوقف. ثور ضخم أعمى يدفع ساقية الدماء بلا هوادة، من يجرؤ أن يوقفه؟

ثمة طموح آخر ظاهر في الرواية، وهو الرغبة في التعبير عن أطياف متعددة من المجتمع الجزائري، وربما هذا ما جاء بوضوح في شخصية الطالب المنتمي للكلية العسكرية، والذي يسمع ويطيع أوامر قادته وفي الوقت نفسه يكتب "اعترافاته" أو مذكراته، ويرسلها إلى الأستاذ محسن، لم يدم حضوره في الرواية لأكثر من ثلاث فصول تقريبًا انتهى دوره بأن تمت محاكمته عسكريًا، لم نعرف الكثير عنه وعن دوافعه وخلفيات موقفه، وإن بدا واضحًا أنه صوت آخر مختلف عن السائد ومحاولة من الكاتب لعرض هذه الوجهة وإن لم تكتمل حتى النهاية، كما جاء حضور "العرافة" التي تكشف واحدًا من أسرار الرواية التي يسعى الأبطال لكشفها غير منطقيًا لاسيما أنه جاء بكشف هذا السر بطريقة مباشرة، وكأنه حيلة الروائي الوحيدة!

استطاع محمد إسماعيل أن يطبع الرواية بنكهةٍ جزائرية خاصة، وذلك من خلال عدد من المأكولات الجزائرية التي ترد على لسان أبطال الرواية، سواء التي يأكلونها أو بطلبونها، وقد ذيّل كل أكلة بعضًا منها بوصفتها أو طريقة عملها، مثل البراج والبغرير والمحاجب، وغيرها، بالإضافة إلى كشف النقاب على عدد من عادات وتقاليد المجتمعات الجزائرية في خاصة في تعاملهم مع البنت قبل الزواج، وكيف يتعاملون مع الغرب وطريقة تفاعلهم مع الآخرين المختلفين عنهم في الجنسية والديانة وما إلى ذلك من عادات وتقاليد شديدة الخصوصية والثراء.

من جهة أخرى لم يبد لي تعبير "الإرهاب" و"الإرهابيين" الذي امتلأت به الرواية سواء في تعبير المواطنين البسطاء عن هؤلاء "القتلة" أو تعبير ممثلي السلطة أو الجيش عنه، إذ كما نعلم هم "جبهة الإنقاذ الإسلامي" وإن كان الجميع يدينون ما فعلوه بكل تأكيد إلا أن إلصاق صفة "إرهاب" بهم لم تكن الأنسب لاسيما في هذا الوقت، إذ كما نعلم أن إطلاق وصف الإرهاب على جماعات الإسلام السياسي لم ينتشر إلا بعد أحداث سبتمبر 2011 انطلاقًا من حرب الولايات المتحدة ضد من اعتبرتهم أعدائها في العراق وأفغانستان، بالإضافة إلى أن الكثير من الأدباء والكتاب عبروا عن تلك المرحلة وأحداث تلك الفترة دون استخدام هذا المصطلح، وهو إن كان إجراء يبدو شكليًا إلا أنه ينزع عن هؤلاء "الإرهابيين" جزءًا أصيلاً من تاريخهم لكونهم شركاء في الوطن، حتى وإن اختلفنا معهم.

في كل الأحوال استطاع محمد إسماعيل أن يقدم رواية متماسكة، وأن يرسم صورة واضحة لتلك الفترة الهامة من تاريخ الجزائر، التي ربما يجهل كثير من الأجيال الجديدة الكثير عنها. ويبقى الأدب معبرًا عن حياة الناس والمجتمع مهما كانت اختلافاتهم مشاربهم قادرًا على تجاوز الخطوط الحمراء والتعبير بصدق عن الواقع.

ــــــــــــــــــــ

الرواية هي الثانية للروائي محمد إسماعيل، صادرة مؤخرًا عن دار العين بالقاهرة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم