يعالج الأنغولي جوزيه إدواردو أغوالوزا مفارقات غريبة تحدث بعد انتهاء الحروب الأهلية، وكيف تظهر طبقة جديدة أثرت نتيجة ظروف الحرب والدمار، سواء كان عبر القيام بأعمال مشبوهة أو أدوار لا تخلو من الإجرام، وإمكانية لجوء أفراد من تلك الطبقة الطارئة إلى اختلاق ماض متخيل لهم، ومحاولتهم تبييض سجلاتهم وتواريخهم وأسمائهم وتلميعها بغية خوض مرحلة جديدة تحتاج إلى آليات وأساليب مختلفة.

يرمز أغوالوزا في روايته (منشورات دار نون في الإمارات بترجمة عبد الجليل العربي 2016م) إلى التزييف الذي يدخله المتنفذون على الروايات التاريخية، واختلاق تواريخ بعينها، وتكرارها وإسباغ الصدقية والواقعية عليها، واللهج بها كأنها وقعت على مرأى ومسمع من كثير من الشهود، ولعبة التطهير أو التنظيف التي يمارسها بعض المتورطين في الخطايا والجرائم والسعي لإزالة التلويث الذي اقترفوه أو التلوث الذي شاركوا في تعميمه أو نشره، والاستعانة بالنقود والنفوذ لتمهد الدروب لتحقيق الغايات.

ماض مزيف:

يفصل الروائي في حكايات الباحثين عن الأوهام التي تتأصل بعد الحروب، عن الجنون المتعاظم للبحث عن وسائل للتملص من الذنوب والخطايا، عن أدوات لتبييض السمعة والتاريخ، عن آليات نزع الدماء عن الأيادي الملطخة بها، عن لعبة التزوير والتزييف في التاريخ والحاضر والمستقبل، يحكي سير مسوخ اعتقدوا أنهم أبطال عظماء يمكنهم تمجيد أنفسهم بشراء ماض مفترض يمسح ذنوبهم المقترفة.

يثير أغوالوزا في عمله كثيراً من الأسئلة من قبيل: هل يمكن بيع الماضي؟ هل يمكن شراء أنساب مجيدة؟ هل يمكن التحايل على الزمن ونسج روايات عن تواريخ متخيلة؟ لماا قد يلجأ البعض إلى شراء الماضي وفي أية ظروف قد يحدث ذلك؟ هل يكون التاريخ بضاعة للبيع والشراء وعرضة للتلفيق والتحايل؟ أية لعبة ينهض بها اللاعبون بالتواريخ والأزمنة والشخصيات والمصائر؟ هل يمكن للمال أن يشتري نسباً مجيداً ويقوم بتبييض صفحة مالكه وتاريخه؟

الراوي أولاليو، وهو عبارة عن وزغة؛ عظاءة، يكون شاهداً على بطل الرواية فيليكس فنتورا، وجوزيه بوشمان، وأنجيلا لوسيا، وغيرهم كثيرون ممن يقصدون فنتورا ليختلق لهم ماضياً مجيداً يؤهلهم لخوض مغامرتهم المستقبلية بحثاً عن امتيازات جديدة، وتكريساً لنفوذهم المتنامي وإضفاء لمزيد من البريق على نجمهم الصاعد.

يلجأ بطل الرواية فيليكس فنتورا بعد نهاية الحرب الأهلية الأنغولية إلى اكتشاف مهنة غريبة، يعمل على بيع الماضي، يخترع لزبنه من الأغنياء الجدد في العاصمة لواندا ماضياً ناصعاً، يهندس لهم عالماً متكاملاً في ماضٍ متخيل، يلفقه لهم، ويخلق لهم أنساباً ذات تاريخ نبيل، يسد عقد نقصهم جراء افتقادهم لماض جيد أو أجداد مشاهير.

يبيع فنتورا الماضي للزبون القادم إليه بما يناسبه، يبتدع له ماضياً بحسب الطلب، يتعرف إلى شخصيته وميوله ويستشرف بعض غاياته، ثم يبدأ بنسج خيوط حبكته للحكاية التي سيؤلفها للزبون عن تاريخ أجداده المفترضين، ودورهم البارز في منطقتهم وزمنهم، وتميزهم الذي يصب في خانة مستقبل الزبون، ومسعاه لتبييض صفحته وتاريخه.

تبييض أموال:

يلفت أغوالوزا إلى أن تبييض التاريخ الشخصي كان جزءاً من لعبة بائسة لتبييض تاريخ أشخاص لعبوا أدواراً بارزة في قيادة مرحلة ما بعد الحرب، وكان ذاك التبييض معادلاً لتبييض الأموال التي جنوها من استثمارات غير مشروعة على هامش الحرب، وكأن مرحلة ما بعد الحرب التي يبحثون فيها عن ماض يساعدهم على غسل عارهم السابق فرصة لتأكيد جدارتهم بقيادة مستقبلية، أو التخفف من أعباء الماضي من خلال شراء حكايات مظنونة عن أنساب مجيدة.

يقصد شخص مجهول بيت فيليكس فنتورا يطلب منه اختراع شخصية جديدة له، يعرض عليه آلاف الدولارات لتنفيذ مهمته، يطلب منه اختلاق هوية كاملة وماض مجيد ليتمكن من بناء عالمه الجديد والانطلاق نحو مستقبله بقوة وثبات، يتردد فنتورا ويجيبه بأنه لا يقوم بتزوير الأوراق، بل يكتفي بنسج الحكايات وتخييل الماضي المطلوب، ويعد الصور الدالة على ذلك لتكون وثائق وإثباتات للزبون على تاريخه الجديد، لكن أن يقوم بتزوير أوراق رسمية، واختراع هوية للزبون فهذا ما لم يسبق له تنفيذه.

يكفل المال الكثير الذي يتركه بوشمان لفنتورا بتليين موقفه، فيهب فنتورا لتنفيذ عملية تزويره الجديدة بمزيد من الحرص والتدقيق، يشعر أنه على أعتاب المشاركة في جرائم لا يفترض به أن يكون شريكاً فيها، لكنه يقنع نفسه أن المسألة لا تختلف عن تخييل القصص واختراع التواريخ، ولاسيما أنه كان يقدم نفسه على أنه عالم أنساب، وهذا ما كان يساعده على تمرير تلفيقاته والبحث عن أنساب يرسم شجراتها وفروعها من خياله ويفرضها في الواقع حين يعطيها لزبونه.

يحكي الراوي عبثية شراء التاريخ أو بيع الماضي، ويسوق حكايات لا تخلو من كوميديا سوداء، منها مثلاً وصول الحيلة إلى الرئيس المفترض، وكيف يختلق لنفسه ثلاث شخصيات بثلاثة تواريخ، وذلك في مسعى للتهرب من أي انتقام قد يطاله، لا يكتفي بخلق الماضي وشرائه، يشتري أشباهاً له، ينوبون عنه في الأنشطة التي تحتاج منه إلى ظهور للعلن بين الجماهير، وتكون المهزلة حين تداخل الشخصيات المتنافرة المختلفة في حاضر يجمعها وأدوار تملى عليها.

في الفصل الأخير "فيليكس فنتورا يبدأ في كتابة يومياته" يقرر بطل الرواية أن يبدأ كتابة يومياته حين يعثر على صديقه الراوي أولاليو ميتاً في حديقة المنزل، لا يصفه بالحشرة، يخاطبه بصديقي. يذكر أنه يتبع ذاك اليوم بالتحديد وهماً بأن أحداً سيسمعه، وأنه لن يجد قط مستمعاً مثله. يعتقد أنه أفضل صديق عنده. ويخبره أنه سيظل معتقداً أنه سيراه في الأحلام. ويشير إلى أن الذكرى التي تبقت منه تبدو كل مرة، في كل ساعة تمر، كأنها بناء في الرمل، ذاكرة حلم. ويبوح بأنه ربما حلم به وبشخصياته التي ابتدعها وحكى عنها.

يناجي بطل الرواية صديقه الراوي أولاليو، يرجوه المساعدة في اتخاذ القرار الصحيح. يخبره أنه إحيائي وكان دائماً إحيائياً، ولكن قليلاً من تلك الأقدار تحقق معه. ويعترف له أنه يمر على الروح شيء مشابه لما يحدث للماء، يقول إنها انهمرت سائلاً، وإن الماء يأخذ شكل الوعاء، وإنه داخل القارورة تظهر قارورة أخرى ولكنها ليست قارورة تماماً.

يقول له في النهاية إنه تحضره صورة بالأبيض والأسود لمارتن لوثر كينغ يخطب في الجماهير قائلاً: "عندي حلم". ويجد أنه كان عليه أن يقول قبل ذلك إنني أنجزت حلماً. ويعتقد أن هناك فرقاً بين أن يكون لك حلم وأن تحقق حلماً. ويؤكد أنه بالنسبة إليه فقد حقق حلماً.

يشار إلى أن أغوالوزا الذي ولد في أنغولا سنة 1960، درس الزراعة في لشبونة، يعيش بين أنغولا والبرازيل والبرتغال. بدأ مسيرته الأدبية بنشر رواية تاريخية بعنوان "المؤامرة". نشر عدداً من الأعمال الأدبية، حصلت روايته "بائع الماضي" على جائزة أندبندت البريطانية للرواية الأجنبية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم