"أولاد الغيتو – اسمي آدم"لإلياس خوري.. حكايات الفلسطينيين المنسيّة
يعتمد اللبناني إلياس خوري (1948م- 2024) في روايته "أولاد الغيتو- اسمي آدم" طريقة تناسل الحكايات وتوالدها من بعضها بعضاً، يستهل، في سياق التمهيد للعبة الروايات داخل الرواية الواحدة، بالحفر في الحكايات لنسج حياة روائية بديلة تكون الذاكرة والذكريات والتواريخ والمآسي قوامها.
يبدأ خوري روايته (الآداب، بيروت 2016) بسرد حادثة، يوحي أنها واقعية حصلت معه في نيويورك، وهي حيلة كلاسيكية في الرواية، تقوده طالبته سارانغ إلى مطعم فلافل، ويلتقي هناك بآدم دنون الذي يغلف شخصيته بضبابية ما، يقدم نفسه إسرائيلياً، في الوقت الذي يكون فلسطينياً بالأصل.
التباس الهوية:
يبني صاحب "سينالكول" روايته على أساس حصوله على دفاتر راويه آدم من سارانغ التي كانت صديقة آدم، وذلك بعد رحيله بطريقة تتماهى مع رحيل الشاعر الفلسطيني راشد حسين الذي قضى محترقاً بين أوراقه وكتبه في شقته في نيويورك. ويتحدث عن فكرة تلبسته بتنسيب تلك الأوراق إلى نفسه وجعلها بمثابة جزء ثان من روايته "باب الشمس"، وتكون الرواية عبارة عن سيرة مفترضة من جزأين، أولاهما حكاية الشاعر وضاح اليمن التي استنكف الراوي عن إكمالها، والثانية مسودات يومياته ومذكراته وأفكاره.
يكون التباس الاسم مدخلاً لتفكيك التباس الهوية نفسها، وتبدد الشخصية بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، فآدم الطفل الناجي من مجزرة اللد سنة 1948 التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين المحتلة، يعيش محنة الواقع ويحمل تناقضاته معه، يهرب من ذاته، ويبحث عنها في الوقت نفسه وسط تغييب قضيته ومحاولة محو شخصيته وهويته، يكون سبيله إلى ذلك تدوين مذكراته وتوثيق مشاهداته والانتصار للحياة عبر الحكايات والأدب.
ينقل خوري جوانب من الصراع على التاريخ والحاضر في فلسطين، وكيف أن ذاك الصراع يطال مناحي الحياة كلها، وسعي المحتل الإسرائيلي لاستلاب الفلسطيني كل ما يمت إلى حضارته وتاريخه بصلة، يطوقه ويسجنه في أرضه، يفرض عليه إقامة جبرية في مناطق بعينها، يستنسخ نموذج الغيتو - كان اسم أحياء اليهود في أوربا- لينتقم من أبرياء استوطن أرضهم التي طردهم منها.
الطفل الرضيع الذي وجد حياً في حضن أمه المقتولة، يتكفل به مأمون الأعمى ومنال، يقول إنه كان ابن الغيتو الذي أقامه الجيش الاسرائيلي لمجموعة صغيرة من سكان مدينة اللد الذين بقوا في مدينتهم، وكان الصهاينة قد سيّجوها بالأسلاك الشائكة، وأطلقوا اسم الغيتو على الحي الذي تم تقييد الفلسطينين فيه.
ويكون الطفل الناجي آدم منتمياً لتلك الأرض متجذراً فيها، فهو ابن شجرة الزيتون المقدسة التي تكون رمزاً للأرض والجذور الممتدة فيها، وهو ابن المأساة الكبرى، ابن النكبة، ابن المجزرة، كما أنه ناسج حكايات الراحلين ومدون تاريخهم المغدور.
جذوة متقدة:
يقرر الراوي الكتابة بوصفه قارئاً، ويعتبر أن هناك تكمن متعته الكبرى. يعترف أنه توجب عليه ألا يكون نفسه، وأن يعيد تأليف حياته عبر استجماعها، وإعادة نسجها من جديد كي يصنع منها ثوبا واحدا لن يكون سوى كفنه، بحسب تعبيره. ويمضي لاستعادة حيواته ابتداء بهروبه من أمه للعمل لدى خواجة يهودي، ثم التحاقه بجامعة حيفا ومعاشرته لليهود المتدينين، وبعدها قراءته وتأويله للأدب الإسرائيلي، ثم تحوله إلى صحافي يكتب عن الموسيقى الشرقية، ثم عبر حكاية حبه، وهجرته إلى نيويورك والعمل في مطعم.
يبحث آدم عن صدى لحكاية حياته المشتتة بين شخصيتين تتصارعان في داخله، تراه يتقن لغة العدو ويتخصص في أدبه، لا كنوع من التطبيع، بل ليقاومه بأساليبه، وتكون مقاومته بالكتابة وتوثيق مختلف تفاصيل الحياة الفلسطينية، لأن تلك التفاصيل تؤكد للمحتل أنه سيبقى غريباً عن تلك الأرض التي اغتصبها، طارئاً عليها.
لعبة الحكايات والشخصيات التي ينسجها خوري في روايته تكون أشبه بطريقة ألف ليلة وليلة، ورواته المتعددون، بما فيهم هو نفسه، صور عن شهرزادات معاصرة، ينقل من خلالهم مآسي الفلسطينين في الداخل والخارج، يساجله بطله آدم، ينتقد روايته المعروفة "باب الشمس"، يقول إنه يعرف راويه خليل أيوب، يبرز له أن تلك الجذوة التي تظل متقدة في أرواح من طردوا من أرضهم تقودهم في متاهات حياتهم في المنافي، وحلم العود يظل ملازماً لهم يدفعهم إلى عالم آخر للتنويع في أساليب مناهضتهم للمحتل ومقاومة ممارساته البائسة الإجرامية بحقهم وحق آبائهم وأبنائهم.
يطرح خوري عدداً من المحاور والقضايا في روايته، حتى لكأنها تبدو جامعة لعدد من الروايات التي يكون الروائي بصدد كتابتها والتفصيل فيها. من ذلك مثلاً إبحاره في عالم الشعر والشعراء، تكون الرواية التي لم يكمل بطله آدم كتابتها مدخلاً لدراسة حكايات الشعراء في التاريخ العربي القديم، ويكون في استحضاره حكاية وضاح اليمن وبعض شعراء العربية مماهياً بينهم وبين راويه آدم نفسه، ومحنة البحث والمقاومة في أرض غير أرضه، وسكنى المنفى وشعور الاغتراب القاتل، وابتكار طرق خاصة للتكيف مع الواقع الذي يجد نفسه في أتونه. كما تراه يحاجج مؤرخي الصهاينة ويدين تلفيقهم وتزويرهم وتزييفهم للتاريخ بطريقة روائية.
عن الجزيرة نت
0 تعليقات