تميّزت رواية "رأس مدركة" للكاتب العُماني يونس الأخزمي، (دار عرب، لندن، 2022) بتركيب عوالمها ونقلاتها الزمنية المتداخلة، إلى جانب السلاسة والعذوبة في الوصف. وهي تأتي خاتمة لمشروعه الجاد، ثلاثية "بحر العرب"، التي بدأت برواية "بر الحكمان" ثم "غبة حشيش"، والغبة هي المنخفض، بينما الرأس هو المرتفع. وبذلك غطت هذه الرواية، عبر السرد التخييلي المستفيد من التاريخ وأحداثه، مساحة مجهولة عذراء وجديدة عربياً، تلتقي فيها مفردات البحر والصحراء وعوالمهما، وهو ما يمكن تسميته التزاوج المستحيل، عبر الجمع بين بيئتين متناقضتين في التكوين الدقيق، لكنّهما متجاورتان، وهو استثمار أدبي لواحدة من العطايا الساحرة للجغرافية العُمانية، وما تتميّز به الجزر الواقعة في بحر العرب من أسرار وتنوّع.
رغم أنّ "رأس مدركة" رواية مهجوسة ومحدّدة طوبوغرافياً بمكان معين، كما يوحي عنوانها، وهذا ما ذهب إليه مشروع الثلاثية عموما، إلّا أنّها لم تكن متصحّرة في شخصياتها، بل هي غاصّة وعامرة بالحوارات بينها، تتقصّد الثبت وقول التاريخ من زاوية جديدة، غير تلك التي راجت. من دون إغفال التتبع الراصد أهم مكامن الثراء الحكائي والطبيعي لهذه الجزر العُمانية المعزولة، وما وقع في تاريخها من مقولات وأحداث شكّلت مادة سرديةً ملهمة لكاتبها، مستفيدا كذلك من خلفيته المعرفية المهنية لهذه المناطق، إذ كان الكاتب مسؤولاً رفيعاً في قطاع الزراعة والثروة السمكية والبيئية في عُمان. ولذلك تتفرد الرواية بالتفاصيل البيئية الثرية لتلامس أدقّ المفردات الثقافية والتكوينية لهذه الجزر، الأمر الذي منح الرواية (ولمَ لا؟ مشروع الثلاثية كاملاً) زخماً تتمازج فيه الوثيقة بالمتخيّل السردي.
كما أنّ الرواية تكتنف رسالة مضمرة أراد السارد أن يوصلها، لكن ليس بطريقة مباشرة، إنّما بطريقة فنية لا تخضع السردي لأي تصفيةٍ حسابيةٍ مع التاريخي، إنّما تجعله ساحةً أنطولوجية ومعرفية للخيال واللغة ورصف ووصف البيئة إلى جانب قول جوانب جديدة من الحقيقة، وهو تفكيك تلك السردية الاستعمارية المتعالية المتعلقة بعدوانية البدو التي روّجتها الحامية البريطانية، التي كانت تتحكّم مباشرة بمعظم سواحل الخليج العربي، بغرض تبرير سرديتها وتمريرها، بل وفرضها حتى على التاريخ. ويتعلق الأمر في هذه الرواية بغرق السفينة البريطانية بارون إنفريدل "التي اصطدمت بإحدى جزر كوريا موريا في الجنوب الشرقي من عُمان" (ص 274). كما تنم الرواية عن المجهود البحثي السابق للرواية في الوصول إلى هذه الحقيقة المغيّبة، لنصل، في النهاية، إلى خلاصة مفادها أن البدو المتهمين بقتل ركّاب القارب المنبثق عن السفينة العالقة، لم يكونوا هم من بدأوا القتال وإطلاق النار، بل كانوا هناك بغرض مساعدة القارب التائه. وبسبب إطلاق النار عليهم من القارب، حدث ما حدث. تؤكّد ذلك أكثر من فقرة في الرواية التي تسرُد فترة ماضية من الهيمنة البريطانية على سواحل الخليج العربي، ما يؤهّل الرواية لأن تندرج كذلك في مساق روايات ما بعد الاستعمار نتيجة هذه الحمولة التاريخية التي تكتنفها، إلى جانب كمّ المعلومات التاريخية التي توفرها في هذه السياق، وما تعانيه حتى السلطة الحاكمة يومها من ضغوط، الأمر الذي كان من نتيجته إعدام مجموعة من البدو، الذين يعتبرهم الشيخ شالح (أحد الشخصيات الرئيسة في الرواية) مظلومين، وقد كوفئ جميلهم بعكس ما يجب، وهو ما تُعرب عنه فقرات عديدة، ضمن حواراتٍ للشيخ شالح متحدّثاً عن جدّه. وشالح كان طوال فقرات الرواية يكره الإنكليز لسببٍ غامض، بالنسبة لبطل الرواية "ديفيد"، لكنّه كشف عنه في الصفحات الأخيرة.
لم تكن هذه الحقيقة التي أريد تثبيتها تمرّ من دون مساءلة موضوعية، وهذا ما سعت الرواية إلى الوصول إليه في العمق، فالزعم الأحادي الذي راج طويلاً، والناتج عن "الخطاب الذي يتفرّد بالحقيقة"، حسب ميشيل فوكو في كتابه "نظام الخطاب" (ترجمة محمد سبيلا، دار الفارابي، بيروت، 2007). لذلك يمضي "شالح" في تبريره ما حدث، في مكان آخر في الرواية، بأن البدو لا يقرأون ولا يكتبون حتى يرفعوا الظلم عن أنفسهم ويسطّروا الحقيقة الغائبة للتاريخ، بينما احتكر الآخر المهيمن، الذي يقرأ ويكتب، تسطيرها ثم ترويجها.

عن العربي الجديد

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم