تبدو الكتابة عن الشخصيات العامة والأعلام المعروفين سلاحًا ذو حدين بالنسبة للكاتب الروائي، فمن جهة هو أمام مادة وثائقية كبيرة موجودة في كتب التاريخ أو دوريات الصحف، فكيف يتسنى له الاستفادة من تلك المادة وإعادة صياغتها روائيًا لتبدو في نسيج الرواية من لحمٍ ودم، ومن جهةٍ أخرى هو أمام تحدٍ كبير في تقديم عالم يعتمد بالأساس على الخيال، ومحاولة المراوحة فيه بين الواقعي والمتخيّل تكون أقل بكثير من المتاح في الأعمال الروائية الأخرى. أضف إلى ذلك إذا كانت الرواية عملاً أول لصاحبها، ومحاولته الأولى لسبر أغوار الكتابة السردية، ذلك كله يجعله أمام رهانٍ صعب، ويجعل محاولته الأولى محفوفة بالمخاطر.

ولكن الكاتبة الصحفية والروائية رحمة ضياء اختارت أن تخوض غمار هذه التجربة بشجاعةٍ تحسد عليها، ليس فقط لكي تكتب عالم روايتها الأولى ولكن لتقدم للقارئ سيرة عطرة لحياة واحد من أهم المنشدين في مصر والعالم العربي وهو الشيخ "سيد النقشبندي" الذي يعرفه الكثيرون بابتهالاته الدينية المميزة سواء "مولاي إني ببابك قد بسطت يدي" أو "أغيب وذو اللطائف لا يغيب" وغيرها من الابتهالات والتواشيح التي أصبحت علامة بارزة في الإنشاد الديني والمواسم الروحانية في كل وقت.

إلا أن رحمة اختارت أن تخوض بنا عرض سيرة الشيخ بطريقة مختلفة، فلم تتنازل عن قدرٍ من الخيال يمنحها إياه كتابة السرد الروائي، فجاءت لنا بشخصية من عالمنا الواقعي وهي "نصرة" السيدة الموظفة الأربعينية التي تعيش حياة رتيبة هادئة، بين زوجها وأبنائها التي تلحظ تفلت عالمهم بعيدًا عنها، ولكنها تمتلك موهبة الكتابة، وتحلم بكتابة رواية عن "النقشبندي" تحديدًا، وسيعرف القارئ بين تفاصيل الرواية لماذا كان اختيار النقشبندي تحديدًا لسرد حياته وسيرته، تتحدث عن الكتابة فتقول:

(عَلاقتي بالكتابة علاقة معقدة.. أوقات تنهال عليَّ الكلمات حتى تغمرني وتفيض من حولي فأجدني أسكبها في كل شيء .. دفاتر العمل.. فواتير الكهرباء والسوبر ماركت.. حتى المناديل الورقية لا أرحمها فاملؤها بكلماتي، وربما ألقيت بها بعدها في القمامة، المهم أن أُخرِج طنين الكلمات من رأسي، وأحيانًا أخرى تمر علي شهور أعجز عن كتابة سطر واحد؛ لذلك لم آخذ مسألة الكتابة على محمل الجد من قبل، ولكن حين نفدت من جعبتي الحيل، بقيت الكتابة ورقتي الأخيرة قبل إعلان الهزيمة.- نصرة)

نتعرّف على عالم نَصرة التي اختارتها مجلة نساء مصر للفوز بلقب "الموظفة المثالية" فيما هي ترى أنها تعيش حياة ليس بها أي انتصار يذكر، بل على العكس ترى أنها محاطة بالفشل في علاقتها بزوجها وأبنائها، والتي نتعرف على جوانب منها، خاصة تلك العلاقة الملتبسة مع زوجها الذي أصبح لا يوليها أي اهتمام، ثم تعود بنا في لقطات موجزة لحياتها قبل زواجها وعلاقة والديها السيئة، ربما كان القارئ بحاجة إلى المزيد من تفاصيل حياة نصرة حتى نتعرّف أكثر عليها ونتعاطف مع ما مرت به من مواقف وأحداث.

ولكن الكاتبة سرعان ما تنتقل بنا إلى تفاصيل قصة حياة النقشبندي التي تبدو مثيرة وشيقة أكثر، ندخل إلى عالم الشيخ من بوابة نصرة، التي ما إن تتعرّف عليها حتى تقارن بين حياتها وحياة الشيخ، لتدرك عددًا من الحقائق الهامة، ولعل أولها وأهمها أن حياته لم تكن بسيطة وردية كما قد تبدو لمن يسمع صوته اليوم، بل لقد عانى سيد النقشبندي الكثير في حياته سواء في طفولته اغترابه عن والده ثم والدته، وحياته مع خاله في طهطا وهي بالمصادفة التي فتحت له تلاوة القرآن والإنشاد الديني بعد ذلك، أو حتى بعد ذلك في عددٍ من المواقف والأحداث التي مرت به وعلاقته بالإذاعة المصرية التي لم تعتمده كمقرئ للقرآن، وغير ذلك.

بين التوثيق وسرد تفاصيل الحياة 

لاشك أن التوثيق الخبري لحياة أو سيرة عالم أو فنان يختلف عن السرد الروائي، ولعل هذا أحد أهم الفروق بين كتابة السيرة أدبيًا وكتابتها روائيًا، فالذي يطلع على سيرة الشيخ "سيد النقشبندي" سيتعرف على عدد من المواقف والأخبار التي نشرت عنه في العديد من الصحف والمواقع، لاسيما أن الرجل كان معاصرًا وله عدد من المواقف الشهيرة المعروفة، مثل ترشيح الرئيس السادات له لكي ينشد شيئًا من ألحان بليغ حمدي، وهو اللقاء الذي خرج برائعته "مولاي"، وحكاية وصيته التي خطها بيده قبل وفاته بيوم واحد، وغير ذلك من أخبار ومعلومات.

إلا أن الكاتبة استطاعت أن تأخذ هذه المواقف والأخبار وتعيد صياغتها في سردٍ روائي شيق، يشعر القارئ أنه أصبح جزءًا من عالم هذا الشيخ وأسرته، من طفولته مرورًا بشبابه وحتى شيخوخته، يضحك من "قفشاته" مع أصدقائه من القراء تارة، ويشعر بحنان زوجته المحبيبة "صديقة" تارة أخرى، ويقف بين أبنائه بعد رحيل والدتهم في حيرتهم لتزويج أباهم تارة أخرى، ولاشك أنه سيتأثر بوفاته في نهاية الرحلة.

(لم تكن صديقة تفك الخط، لكنها كانت أجدع من أي حكيم.. لا تحتاج إلى سمَّاعة تضعها على صدرك لتعرف شكواك.. يكفي أن تنظر إلى عينيك فتشعر بما فيك، وتُطيِّب جرحك بواحدة من وصفاتها السحرية ...حلَّة محشي يتصاعد من جوفها البخار تجعل الدفء يسري في أبداننا في ليلة شتوية زمهرير. خلطة أعشاب جاهزة لكل داء. تربى عليها خمسة أولاد دون حاجة إلى زيارة طبيب سوى مرات تُعَد على الأصابع، وقرصة أذن كفيلة بجعلهم لا يَحيدُون عن الطريق المستقيم)

هكذا طافت بنا رحمة ضياء في عالم إمام المنشدين سيد النقشبندي، وذلك دون أن تحوّل روايتها إلى سيرة ذاتية جافة، أو تنجرف إلى عالم الصوفية وما يحمله من إغراء، ولكنها استطاعت أن تمزج بين سيرة الشيخ وعالم بطلة روايتها نصرة التي تعلمت الكثير من هذه الرحلة ولاشك، وإن بقينا في النهاية لا نعرف هل ستعود إلى عالمها وتسعى لتغييره أم تفضل أن تبقى بجوار عالم الشيخ ورحابه.

رحمة ضياء روائية وكاتبة صحفية مصرية، حازت على جائزة هيكل للصحافة العربية عام 2019، روايتها الأولى "النقشبندي" حصلت على جائزة خيري شلبي للرواية التي تنظمها أسرة الروائي الكبير هذا العام، ونشرت الرواية عن دار الشروق ولاقت إقبالاً كبيرًا في معرض الكتاب الماضي 2022، ولرحمة ضياء مجموعة قصصية سبقت الرواية بخمس أعوام هي "رقصة مع الرومي".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم