لن أقرأ هذا العمل، سأحافظ على تأثري بشخصيتي ستيف ماكوين "بابيون" وداستن هوفان "ديغا" دون تغيير أو تحوير، حسبي ما عرفته وشعرت به في الفيلم. راودتني هذه الخاطرة عدة مرات الى أن وقعت بين يدي السيرة الروائية لهنري شاريير والمترجمة بقلم الصديق المترجم حسين عمر الذي بذل جهدا جبارا بلا شك كي يخرج العمل بصورة أنيقة وبلغة سلسة ومترابطة. أهداني إياها في ذات اليوم الذي أهديته فيها روايتي الأولى حبوكر، فظلت بحوزتي سنة أو أكثر بقليل، وكنت أتناول الكتب من على الرف وأتجاوزها مرة تلو الأخرى الى أن شاء مزاجي غير ذلك.

حسنا، يُصنف الكتاب من طائفة الكتب "العملاقة" أو قد يقول البعض بأنها من الكتب "المتعملقة"، فقد بات الحجم سمة الروايات العظيمة! يسعى إليها العديد من الكتاب جاهدين ولو ملؤوا الصفحات بأكوام القش والطين، لكن ليس هذا العمل، قلت في نفسي، كل شيء فيه حقيقي ولابد من سرده ولو احتاج الكاتب الى بضع مجلدات، ولم يخب ظني سوى في بضع فصول وعدد من الأحداث التي كانت استطرادا لا طائل منه – بالنسبة لي كقارئ-.

يقع العمل في 781 صفحة، وهذه المعلومة كافية كي يرتد عنها طائفة واسعة من القراء، طبعا لن يقربها بأي شكل قراء الفيسبوك وسينعتون الرواية بأبشع النعوت بمجرّد رؤيتهم لحزمة الأوراق هذه التي يمكن بها قتل شخصا ما بضربة قوية على قفاه، وقد يعقب عشاق السينما، لا طائل من قراءة هذا الرواية، لأنهم شاهدوا الفيلم بنسختيه القديمة والجديدة، وأنا شاهدت النسختين، لكني مختلف عنهم، فأنا أعشق الكتب التي ترهقني وتدفع عني النوم وتبقيني يقظا، أعشق الكتب التي يتعب معصمي من حملها فأحملها باليد الأخرى، اعشق الكتب التي أخشى وضعها على الرف كي لا ينكسر الرف لشدة ثقل الكتاب، وأعشق الكتب.

بابيون، الاسم الذي ظل يجول في رأسي منذ أن شاهدت الفيلم بنسخته القديمة، وما كنت أعرف أن الاسم يعني فراشة، ولم أدرك أن هذا اللقب علق به لأن قميصه الذي سجن به كان يحمل نقش أو طبعة فراشة زرقاء، وهذا امر شاعري بلا شك، لكن لا ينبغي للقارئ أن يقتنع بأنه حصل على هذا اللقب بسبب تلك الفراشة الزرقاء "البلهاء"، فما أن يُقرأ النص ويتوغل المرء في شخصية هذا الهارب أبدا سيعرف أن له صفات تشبه الفراشة، هو هش وقلق وقوي في ذات الوقت تماما مثل الفرشة، يتصرف كما لو أن أيامه معدودة على الدوام، ومثل الفراشة لا يستقر في موضع، يظل يحوم ويحوم، يحط على هذه الزهرة وتلك دون أن يستقر على أي منها، لا قرار في حياته، يسعى الى الفرار دوما بتفكر أحيانا وبجنون أحيانا أخرى.

سجن وهو في الخامسة والعشرين من عمره بسبب جريمة مقتل قواد، لولا أنه أنكر التهمة عن نفسه وسعى للبراءة في المحكمة، وما إن ألصقت به صفة المجرم القاتل اعتاد عليها ويبدو أنه تقبلها بصورة ما، مؤكدا صواب دراسات ونظريات علم النفس الاجتماعي، فتصرف كالمجرم وانتهى إلى ارتكاب جريمة في السجن، لا بل كان بمقدروه ارتكاب جرائم عديدة بلا تردد في سبيل نيل الحرية! بشكل جعلني أشك في أنه كان بريئا أصلا، لقد غابت عنه سمة البراءة على طول الرواية، وغلبت عليه صفات يمتاز بها القادة والمجرمون عادة، كان حذقا وذكيا، يمكنه التضحية بأي شيء كي يحقق مبتغاه، وفي حالته كان الهرب والفرار نحو الحرية هو مبتغاه، كان براغماتيا مثاليا ووغدا في كثير من الأحيان، لكن بالرغم من كل هذه الصفات، ليس يمكن إلا الانبهار بشجاعته وارادته المصقولة كالماس، ويصعق إصراره على حريته، ما دفعني إلى قول، ماذا أفعل أنا من أجل نيل حريتي، فأنا مسجون كذلك، كلنا مساجين بهذه الصورة أو تلك، والحياة مؤلفة من سجانين ومسجونين، لا يختلف هذا السجين عن ذاك ويتشابه السجانون ايضا ولو اختلفت اسماءهم أو تسميات السجون، والسؤال هو، ما الذي نفعل كي ننال حريتنا؟

نال على إثر الجريمة "المزعومة" السجن المؤبد وفي لحظتها فكر بالرغم من وطأة الحكم عليه "مدة الحكم ليست مهمة بالنسبة لي لأنني عقدت العزم على الفرار" وخطر في ذهنه جملة لأحد المحكومين "سيدي القاضي، كم تستغرق الأشغال الشاقة المؤبدة في فرنسا" لن تستغرق طويلا مع شخص مثل بابيون الذي جعل يستعلم ممن فروا مرة قبل أن يقبض عليهم، تساءل حول ظروف وسبل الفرار الممكنة وغيرها من التفاصيل، وبدأت الأعمال الشاقة لديه قبل ان يغادر سجن التوقيف، الأشغال الشاقة المتعلقة بالفرار وليس بشيء آخر.

ما يلفت النظر في بداية الرواية هي مسألة المواسير الشرجية التي يحملها السجناء معهم، وهي ماسورة تحتوي على مبالغ مالية كان بابيون يحمل إحداها ومثله يفعل غيره من المساجين لغايات عدة، بالنسبة له كان محتوى الماسورة ضمان فراره، سأرشي الحراس بها وأؤمن وسيلة الفرار، ودس ماسورة أكبر من ماسورته تحوي مبلغا أكبر من مبلغه في مؤخرته حينما أصيب صاحب الماسورة بالالتهاب الزحاري ولم يعد بمقدوره إمساكها في أحشائه، ولاحقا تخلى عن فكرة إرجاعها خشية أن يمزق المساجين أحشاءه بحثا عنها فقد كان أمر غناه معروفا للجميع، فحمل بابيون الماسورتين في أحشائه لأشهر عدة.

يبدو لي، أننا جميعا ينبغي ان نحمل ماسورة ما ضمانا لحريتنا، بالنسبة لي اخترت القراءة والكتابة ضمانا، وهو ليس ضمان أكيد على أية حال، في الوقت الذي تبقى الماسورة المليئة بالنقود ضمانا أكيدا للحرية في أي سجن كان المرء، يبقى أن نقرر أين نخبئها!

تناوبت عليه نوبات الانتقام من القاضي ومحامي الدفاع وهيئة المحلفين، فأخذ يقتلع عيونهم من محاجرها ويقطع الألسنة، ذهب الى اشنع اساليب التعذيب، وارتخى حماس القتل لديه لاحقا كي يتفرغ ويركز عقله في خطة الفرار، كان محقا، لأن الانتقام لن يتحقق ما لم يفر. تبدأ السيرة الفعلية برأيي حين لقائه بعبقري تزوير العملات "ديغا"، والذي أدى دوره في نسخة الفيلم القديمة الممثل داستن هوفمان وفي النسخة الثانية الممثل رامي مالك، هي شخصية جذابة بحق، ذكية وواقعية، متيقظ ويبدي حذر مستمرا بما يتناسب وخصال مهنة تزوير العملات، التزم بعقد الصداقة مع بابيون، بل كان له نصوحا على الدوام وساعده في ترتيب عمليات الفرار دون أن يكون جزء منها، لانه فضل انهاء مدة حكمه ونيل حرية مشروعة. تقع محاولة الفرار الأولى، من ثم القبض عليه والعودة به الى جزيرة سانت جوزيف ليقضي سنتين من الحبس الانفرادي وهي طريقة ابتدعتها السلطات الفرنسية وارهقت نفسها بهندسة أحوال السجناء فيها، ففي لحظة اغلاق باب الزنزانة يمنع فتحه الى أن تنقضي مدة الحكم، ولا يسمح بالحديث بين السجناء لا بالكلمات ولا بالاشارات عبر الجدران، وغيرها من الشروط التي تفضي الى توحد السجين مع الجدران أو الجنون أو الانتحار. تلت عقوبة الحبس الانفرادي مرحلة ذهابه الى معكسر الاعتقال في جزيرة رويال من ثم محاولة الفرار الثانية أو الأحرى أن نقول كانت السادسة أو السابعة لأنه حاول الفرار مرارا من سجنه في كولومبيا قبل تسليمه الى السلطات الفرنسية، وأقل ما يقال في تلك المحاولات "الكولومبية" بأنها ملحمية وقد تعجز مخيلة أحنك الكتاب عن ابتداعها.

عُرف بأنه متهم في حالة فرار دائمة، عندما فشلت محاولة الفرار أو اجهضت قبل أن تبدأ، سعى للانتقال الى جزيرة الشيطان التي تعد جحيما قائما فوق البحر، هي جرف صخري تضربه الامواج الهائجة من مختلف الجهات ولا يمكن بلوغها بالسفينة كذلك دون الاستعانة بحبل عملاق ربط بين الجزيرتين. اعتقد انه المكان المناسب كي ينظم خطة الفرار، فعدد الحراس قليل، ولا يوجد فيها قارب يمكنهم به ملاحقته حين الهرب. انكب على دراسة البحر من مختلف الجهات، وعندما حقق مبتغاه تحول الى عالم بعلوم الامواج، أخذ يدرس حركة الموج، موجة، اثنيتن، ثلاث.... ست موجات قصيرة تضرب الجرف تليها الموجة السابعة العملاقة. تحطم الكيس المليء بجوز الهند مع الموجات الست التي كانت تتشكل على مسافة قريبة ولا تتيح ابتعاد الكيس عن الجرف الصخري، أما خلاصه فيكمن في الموجة السابعة العملاقة الأشد رعبا من بين كل الامواج، والتي يمكنها تحطيم سفينة شراعية كبيرة على الصخور، أنها "ليزيت" كذلك سميت الموجة السابعة، وليزيت هذه هي طفلة كان قد انقذها بابيون من القروش بينما كان في معسكر السجناء، وها هي ستنقذه ورفيقه " سيلفان" من مؤبد السجن الى مؤبد آخر في سجن الحياة. تابع دراسة الامواج واختبر نظريته مرات عدة الى ان ثبتت صحتها، وبدأت الاستعدادت. توقف ثلاثتهم، هو وسيلفان وشانغ، واحد اثنان ثلاث اربعة خمسة ستة، ها هي ليزيت قادمة، استعد يا سيلفان، وهبااا قفزا وسُحبا الى عرض البحر على بعد مئات الامتار من الجزيرة، يلي هذا الحدث، رحلة فرار اخرى وأخرى الى أن يستقر في فنزويلا ويصبح فيها مواطنا.

اتضح لي أن هنري كان سجينا في داخله لن تشفيه أو تعتقه كل حريات العالم، هو مثل العديدين منا، لا يعرف ما هي الحرية ،لكنه يسعى إليها مستعدا للتخلي عن الأشياء جميعا لأجلها، وعلى الأغلب يجهل أن كان قد بلغها أم لا، فيظل يهرب عنها إليها. ولرأيي هذا العديد من الحجج.

ما حدث خلال القراءة، هو أنني جعلت أتعاطف مع البطل في هذا الفصل، لكن أنبذه وأكرهه في فصل لاحق كلما بانت فيه خصال ناكري الجميل وناكري النعمة، بدا أن عقله ونفسه مشوشة لحد لا يليق به الحرية التي صادفته من حين لآخر وكان يمكنه ختم مأساته بها، لكنه تخلى عنها دون سبب مقنع، أو كان السبب واضحا، فهو لا يعرف ماذا يريد حقا أو لا يعرف غير الهروب في حياته. أقولها صراحة، أن قراءة الرواية قللت حجم تعاطفي وتأثري بشخصية هنري التي أثرت في أشد التأثير حين مشاهدة نسخة ستيف ماكوين، لماذا وقع لي هذا الانقلاب؟ يبدو أن التأثير عائد الى تفاعلي مع الحكاية عبر نص مكتوب أحمله بيدي واتملس صفحاته بأصابعي، ولأنني قرأت عن احداث وقصص لم تذكر في الفيلم الذي بدا مجتزأ ومختصر بصورة فجة! أنا والكتاب لوحدنا، أنا من سيعيش النص هذه المرة، ويقع على عاتقي بعث الشخصيات والاحداث والمكان والزمان الى الحياة عبر خيالي أنا انطلاقا من كلمات صماء مكتوبة بحبر أسود على ورق معجون من لحاء الشجر.

لمَ كنت تهرب يا بابيون، ألأنك بريء، ربما ، لكنك قتلت أحدهم في السجن وحق فيك السجن المؤبد، دعونا نتريث قليلا هاهنا، هم من حولوك الى قاتل، والذي قُتل بسكينك قد قتل بأيدي سجاني المحكمة والدولة، قتل بأيدي جلادي القانون والدولة، لولا أنك لست بريئا كما تدعي، فيك كل صفات المجرم، أتذكر حينما حللت في غويانا الانكليزية في زمن وسم بالحرب العالمية الثانية، حصلت على حريتك وبطاقة تعريف شبه رسمية، وأسست ملهى ليلي يعج بالعاهرات اللاتي هجرن مهنتهن الى مهنة ارفع منها منزلة وهي الرقص المتعري وإلقاء اجسادهن في احضان الزبائن، بدأت احوالك تتحسن لولا مقتل إحدى راقصاتك الفتيات بطلقة احد الزبائن ممن خسر بطاقاته العشرين وبالتالة فرصته في نيل الفتاة الغضة بين احضانه، وانتهت هذه الفقرة من حياتك ليبدأ أشد الفصول مللا في سيرتك على الاطلاق. ماذا عن قبيلة الهنود التي يخاشها البشر والحيوانات لا يقربهم أي كائن حي، حللت بينهم وتقبلونك كواحد منهم ولا ادري لماذا وكيف، اذ لم تبين ذلك في سيرتك، هناك تزوجت اختين معا وحلبت كل منهما بطفلك قبا مغادرتك لهم فلم تنل من ذلك غير العودة الى السجن في كولومبيا من ثم العودة الى جزيرة سانت جوزيف. وأيضا بالعودة الى غويانا الانكليزية، تعلقت بك فتاة هندوسية كان والدها ساحر أو لديه كرامات معينة لكنك تخليت عنها أيضا ولو أنها وضعت في يديك كل ما تملك من ذهب ونقود واعانتك في مشروع العري الذي أسسته هناك. غريب أمر هذا الشخص، كان محبوبا حيثما ذهب ولا احد يدري لماذا، وفي السجن امتاز بعلاقة جيدة خصوصا مع زوجتي آمري السجن، واحترمه غالبية المجرمين، كان داهية في القمار وفنون العري، هذا كان حال بابيون الجميع يبنجذبون اليه وهو معرض عنهم، الرجال يحترمونه ويحبونه، والفتيات تقعن في غرامه هندوسيات كن أم هنديات لاتينيات أم فرنسيات، بدا متعجرفا في اضفاء تلك الميزات على نفسه، ولو اضيف الى كل ذلك تفانيه في نيل الحرية بأي حساب، يمكن فهم شخصيته أكثر وتتضح الصورة فيما وراء التعاطف الانساني الأولي الذي لا مفر منه بالنسبة لكل من يقرأ أو يسمع عن العمل.

هل تستحق الرواية القراءة؟ نعم، بل قراءتها واجبة، فيها صور ومشاهد خارقة تكاد تماثل ما خرج به دوستويفسكي حول تجربته في معتقلات سيبيريا، لكنها ليست من نمط الروايات الرفيعة في سردها ولغتها الأدبية، الأحداث فيها تجري خطيا، لا يوجد فيها تلاعب بالألفاظ ولا غنى في الاستعارات والصور المبتكرة، كل شيء فيها يجري خطوة بخطوة، يشعر المرء بالملل في العديد من المواضع وهذا لا ينفي أن هذه السيرة الروائية تحفة منحوتة بإزميل تجربة إنسانية فريدة.

إلى ماذا ستتوصلون أيها القراء، ما الحكم الذي ستتطلقونه على بابيون "هنري شاريير" أكان بريئا فعلا فتكملون سلسلة تعاطفكم معه إلى النهاية، أم أنه وغد قلق لا يعرف غير الهروب ملجأ، ويمكنه التضحية بأي شيء في سبيل إنجاح عملية فراره استعدادا للفرار التالي من السجون والبشر والأشياء جميعا...!


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم