ببساطةٍ تشبه بساطةَ الأطفال أقول: أحببتُ هذه الرواية الموجهة لجيل الصغار، وقلتُ لنفسي: كلُّ مَنْ سيقرؤها منهم لن ينسى اسمَ كاتبتها الشابة: روعة سنبل. مدَّتِ الرواية كفَّاً سحريَّة، وأيقظتْ طفولتي النائمة تحت العقد السابع من العمر، ورغمَ أنني متوعك بمناقير الرقبة التي أفسدتْ عليَّ الاستمتاعَ بقدوم الربيع وجدتُ نفسي أقرؤها سريعاً أو أهجم على عذوبتها كما يهجم طفل على كيس السكاكر.

في نقاطٍ تشبه الكتابة على الماشي سأذكر أسبابَ انجذابي للرواية وإعجابي بها:

* قلَّما أقرأ عربياً رواياتٍ ناجحةً للأطفال، إنها شيءٌ قليلٌ نادر كندرة وجود عصفور مغرِّد في الصحراء، لكنَّ هذه الروايةَ كانت هي العصفور المفقود، وقد غرَّدتْ على شجرة قلبي، وخطفَتْني إلى عوالمها المتنوعة المركَّبة الثرية.

* اجتماع البساطة مع العمق، فالبساطة هي المائدة التي يفضِّل الأطفال أن يتناولوا فوقها وَجَباتِهم الثقافية، والعمقُ يقود الطفلَ إلى أحضان واحةٍ جديدة، ويدرِّبه على التأمل وفهمِ الكائنات والمجريات، وهذا العمق أيضاً قد يجتذب الكبير، فيجد في الرواية ما يغريه بالإبحار، والبحثِ عن اللآلئ.

* اجتماع الواقع والخيال في أُلفةٍ عجيبة، فخوخا البطلة طفلة في الثالثةَ عشرة، وبعد أن انكسرت شاشة الآيباد فكَّرتْ في أن تكتب رواية، ولهذه الطفلة أصدقاء خياليون كصديقتها مايا، والمايسترو الذي يقدِّم داخلَ رأسها موسيقا خيالية في بعض المواقف، ومخلوقات البق.. بق، وهي تنتقل من روايتها المكتوبة إلى الواقع، ومن الواقع إلى الرواية، وتدخل في رواية أخرى تكتبها أمها حيث تهوى الأمُّ الكتابة أيضاً. إنها تضعنا على تخوم الأشياء والعوالم أو تلغي الحدودَ فيما بينها كما هو عالَم الطفل، وكما في أدب الواقعية السحرية.

* التطور الدرامي المتنامي غير المفتَعل، ففي الأجواء التي أشرتُ لها ترغب خوخا في التسلية فأخوها حمُّودة لصغره غير قادر على تسليتها، وأبوها مسافر لألمانيا، اقترحت خوخا على أمها أن تُحْضِرَ لها قطة، فإذا بها تجيئها بكائن آخر هو سلحفاة، فللقطة مشاكلها كما زعمت الأم، ومن هنا يبدأ خيط الأحداث بالتصاعد فخوخا لا تستلطف السلحفاة في البداية، لكنها لا تلبث أن تكتشف أنها قادرة على المؤانسة والبوح والشكوى والتفاعل حتى إنها صارت تفتقدها إذا غابت في حفرة الحائط في الحديقة!

* تشكيلة شخصيات جذابة تسترعي اهتمامَ الطفل حتى وإن كانت تعطي أوامرَ كثيرة كوالدة خوخا، لأن تلك الوالدة مع أوامرها معبَّأة بالمحبة، من تلك الشخصيات- إضافةً إلى خوخا والأم وحمّودة- الجدة اللطيفة عاشقةُ النباتات، وعمر صديق خوخا في الحي، والساحر حشكلوز، ومايسترو الموسيقا الذي أشرتُ إليه، والسلحفاة التي تنافس خوخا على دور البطولة في هذا العمل الروائي، وهناك آخرون أيضاً، ومن اللافت حسنُ اختيار الأسماء للشخوص الذين نتحدث عنه فالاسم بمثابة تيمة ساحرة يستجرُّ الأطفالَ للتآلف مع الشخصية.. لننتبه مثلاً لاسم حشكلوز، ولمخلوقات البق.. بق، ولاسم شعبي لطيف هو: أم صبحي حملَتْه السلحفاة، لأنها تصحو باكراً.

* حافظت الكاتبة على عجينة نصها نقيةً بعيدةً عن خلائط الوعظ، وشوائب النصائح التي تشبه الزيوت المهدرَجة الضارة، بل إنها- على لسان خوخا- أوردتْ نقداً للقصص الموجهة للأطفال من خلال تعليقها على ما تكتبه أمها حيث تذكر أن الصغار لا يظهرون فيها لا على حقيقتهم، إنما في صورة نمطية يريدها الكبار، فهم- في تلك القصص- هادئون مطيعون يفضّلون الأكل المغذّي والنومَ باكراً!

* نشهد تطوراً جديداً يضيف غنىً آخرَ للنص، فالسلحفاة ترغب في أن تتخلص من صَدَفتها الثقيلة التي تحملها على ظهرها كالبيت، وتشتهي أن يكون لها جناحان بدلاً منها.

* مع هذا كلٍّه يطلُّ الواقع السوري بلونه الملطَّخ بالحزن.. إطلالتُه تأتي من خلال إشارات إلى الحرب، والغلاء، وانقطاع الكهرباء، وسفرِ الأب لألمانيا، ثم لحاقِ الأسرةِ كلها به، وهكذا.. فنحن أمام خيوط عديدة تنجدل مع بعضها كضفائر الصبايا أو تشكيلاتِ اللون في مطرَّزات الكَنَفا.

* بمفاجأة باهرة تمدُّ خوخا يدها إلى بيت السلحفاة ذاتَ يوم، فإذا بقوةٍ غريبة تسحبها إلى الداخل لتجد أمامها غابةً فسيحة! تذهب هي والسلحفاة إلى بيت الساحر حشكلوز، وبعد تفاصيل مشوِّقة جميلة يقوم الساحر بإدخال السلحفاة أم صحبي إلى المايكرو ويف فينتزع صَدَفتَها، ويضع لها جناحين كما تتمنى.

* مع النهاية يزداد ألقُ الرواية حيث تعود السلحفاة بعد مدة، وتقول للساحر، إنها ملَّت من الجناحين، واشتاقت لنفسها، فيعيد إليها صَدَفتَها، وتستعمل الكاتبة على لسان سلحفاتها جملةً هامةً بليغة ذاتَ أفق فلسفي حيث تقول: (صدِّقني لا يحتاج المرءُ لجناحين كي يطير يحتاج فقط أن يحبَّ نفسه).. أي أن يرضى بكيانه، ويعمل على التحليق من خلاله، ثم تكتمل النهاية بأنَّ خوخا التي سافرت إلى ألمانيا مع أسرتها لم تستطع أن تنسى بلدها الغالي سوريا، وظلت تحمل بيتَها التي عاشت فيه بكل ما يحويه من ذكريات وجمال فوق ظهرها، كما تحمل صديقتها السلحفاة أم صبحي صَدَفتَها.

* من حيث الأسلوب شعرنا بمهارة السرد ولطفه، وقربه من أفهام الصغار، وخصوصياتِهِ الفنية التي تميّزه من الأساليب الأخرى، وتمنحه بصمةً متفردة، ولا سيما مهارةً في سرد تفاصيلَ كثيرةٍ تتعلَّق بحياة البنات الصغيرات دون أن يملَّ القارئ مثل إصلاح مسابح الجدة المقطوعة، وإدخال معلومات علمية بطريقة سلسة في النسيج الروائي كالإشارة إلى وظيفة صَدَفة السلحفاة ص٥٨ بأنه لا يمكن نزعها دون ضرر، (فهي جزءٌ من الهيكل العظمي للسلحفاة، تكبر مع نموها، وتوجد تحتها شبكةٌ معقَّدة من الأوعية الدموية والنهايات العصبية).

* جاءت الرواية بهذه السويَّة الجيدة أو الممتازة مع أنها أول رواية تكتبها صاحبتها للأطفال، حتى إنَّ القارئ يكاد يشك بذلك، فهذا الإتقان لا بد له من ذخيرة كبيرة وتجارب سابقة، لكنْ.. لعلنا نستطيع أن نفهم الوضع بأنَّ الكاتبة كتبت قصصاً عديدة للأطفال، وحصلت على جوائز، وما الرواية في آخر الأمر إلا قصة طويلة.

أخيراً.. أودُّ أن أكتبَ أكثرَ عن هذه الرواية الشائقة المترعة بالفن والإدهاش، لكنَّ مناقير الرقبة كزوجة من النوع النقَّاق تخزني من كل جانب، فأنهض الآن لأطفئ شاشة اللابتوب الذي أخطُّ سطوري عليه.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم