كيف يمكن أن يروي يهودي في المجتمع العربي، وبعد أعوامٍ من الصراعات والحروب والمناوشات السياسية والعسكرية حكايته؟ لطالما قرأنا (ولازلنا نقرأ) ما كتبه الروائيون العرب عن اليهود من وجهة النظر

لليهودي في الرواية العربية حضور خاص، وكنت قد كتبت منذ عامين عن عدد من الروايات التي حاولت أن ترسم صورة إنسانية عادية لشخصية اليهودي من خلال رواية "اليهودي الحالي" لعلي المقري ورغوة سوداء لحجي جابر (مجلة الجديد 2019) https://bit.ly/3DigRW1 حيث كنّا إزاء نموذجين مختلفين لليهودي في مكانين وزمانين مختلفين من موريتانيا إلى اليمن، ولاشك أن قائمة الروايات التي تناولت اليهودي في عدد من البلدان العربية تطول، ولكني أحببت أن أشير هنا فقط إلى فكرة محاولة التعاطف مع ذلك النموذج اليهودي العربي الذي ترك وطنه أملاً في أرضٍ أخرى سموها الأرض الموعودة.

هذه المرة نحن مع عمران المالح، الذي يسقط في شبه غيبوبة ثم يبدأ تدريجيًا في عرض حكايته مستخدمًا تقنية تيار الوعي، حتى يورط القارئ في حكايته التي تتداخل فيها الحقائق بالخيالات، نتعرف إليه كيهودي يعمل مشرفًا على صفحة ثقافية في جريدة فرنسية، وكيف جاء هاربًا من إسرائيل بعد إصابته في حرب أكتوبر عام 1973، ويعود بنا للماضي إلى أيام نشأته في المغرب وكيف بدأت حكاية تهجير اليهود إلى إسرائيل، يقول:

(كنّا نعرف أن وجودنا في المغرب مؤقت ما إن نحصل على البكالوريا حتى نغادر من دون رجعة، ليس إلى إسرائيل التي لم نكن نعرف عنها شيئًا آنذاك، بل إلى فرنسا التي نتحدث لغتها والتي ندرس في مدرستنا ما يدرسه الفرنسيون في أرقى مدارسهم، الحق يقال لم نكن نشعر بغربةٍ من هذه الازدواجية في الانتماء أو الولاء، عشنا سنواتٍ وسط المغاربة المسلمين كانوا جيراننا وكان بعضهم أصدقاءنا لكننا في الوقت نفسه نعلم أن وجودنا بينهم مؤقت)

كل هذه الأفكار استطاع الروائي المغربي محمد سعد أحجيوج أن يضمنها في روايته، وأن يطلع القارئ وخلال صفحات الرواية القليلة على أطرافٍ منها، يدرك القارء بمجرد الغوص في تفاصيل الحكاية أن ثمة حكايات يمكن أن تصاغ وعالمًا روائيًا بالكامل يمكن أن ينشأ في أعطاف هذه الرواية، ولكن أحجيوج آثر أن يوجز هذا كله ويشير إليه بشكل عرضي، لا أعتقد أنه سيمر بشكل عابر على القارئ، ولكنه سيبقى راسخًا في ذهنه طويلاً. ثمة من استطاع أن يعبّر عن اليهودي بشكلٍ مختلف هنا، يهودي يعيش في المغرب وسط المغاربة بشكلٍ طبيعي، ولكنه يعلم أن وطنه سيكون هناك في فرنسا، وفجأة تظهر له إسرائيل كأرض ميعاد على نحو ما يقولون له!

(أتذكر أنني كنت قبل مغادرتي إسرائيل أشفق على الفلسطينيين وأتفهم حقهم في الدفاع عن أرضهم، وفي الوقت نفسه كنت أعتبر إسرائيل مستعدًا للدفاع عنها أمام الجيوش العربية! أم الآن، أمام هذه الصفحات البيض التي يتحرك عليها قلمي بسلاسة التداعي الحر فأجد أن موقفي انعكس، ماعدت متعاطفًا مع الفلسطينيين (كيف أتعاطف مع بقية شعبٍ يحارب نفسه من أجل مقعدٍ وهمي؟) وما عدت أعتبر إسرائيل وطني ولا أرى حاجة إلى وطنٍ خاصٍ لليهود. لكني في الوقت عينه أتفهم حق السابرا، اليهود الذين ولدوا في إسرائيل، أن تكون الأرض التي هم عليها وطنًا لهم..)

الصراع الذي اعتمل في نفس عمران المالح لم يكن هينًا، ولا أظن أن تجاوزه بكون يسيرًا، وعلى الرغم من أن تعبير الكاتب عنه لم يطل، ولكنه في جانب كبير منه تعبير حقيقي عن يهودي عاش ذلك التشتيت بين الهويات، وعاش مع اليهود وتعرف عليهم ومع العرب وصادقهم، ثم أضاف الكاتب إلى حكايته حكاية أخرى تخص الناشر "غولدشتاين" وموقف محرقة الهولوكوست، الذي ترواح ين الكذب والحقيقة أيضًا، إلا أن ذلك كله يمر ببساطة لينتقل الكاتب إلى موضوع آخر يبدو أنه يراه أكثر أهمية.

براعة التكثيف 

في أقل من مائة صفحة عرض لنا محمد أحجيوج حكاية أدمون أو أحجيته تلك، وهي مهارة نفتقدها كثيرًا في عصر الروايات ذات الحجم الكبير التي تلفت أنظار النقاد والقراء أكثر من غيرها، بل هو رهانٌ حقيقي على تقديم المتعة والعالم الأدبي الواسع بتفاصيل أقل، وبتكثيف أكبر، يجعل القارئ يتماهى مع العمل ويسعى لاستبطانه والكشف عن تفاصيله الخاصة بنفسه.

 

عمران المالح حقيقي أم خيالي 

كانت مفاجأة الرواية بالنسبة لي بعد أن انتهيت منها، وأثناء البحث وراء بعض تفاصيلها أن هناك شخصية لكاتب مغربي يهودي بالفعل اسمه "إدمون عمران المالح" المولود عام1917 بمدينة أسفي الساحلية الصغيرة الهادئة المطلة على المحيط الأطلسي وتوفي في 15 نوفمبر 2010 في مدينة الرباط. وكان قد عمران المالح بأن يدفن جثمانه في مدينة الصويرة، المدينة التي نشأ وعاش بها طويلا وكتب فيها أكثر إنتاجاته الأدبية، ترجمت أعماله إلى عدد من اللغات. ينحدر أصله من عائلة يهودية مشهورة سابقا في مدينة الصويرة، أصوله أمازيغية و ينحدر من قبيلة آيت عمران جنوب الأطلس . اختار البقاء في المغرب في الوقت الذي كانت فيه الحركة الصهيونية تنشط لكي تشجع اليهود على الهجرة إلى أرض إسرائيل وهو الموضوع الذي توقف عنده كثيرا في روايته (ألف يوم ويوم) التي نشرها في نهاية الثمانينيات. فضّل الهجرة إلى فرنسا بسبب مواقفه المعارضة لنظام الحسن الثاني , سافر إلى باريس سنة 1965 لكي يشتغل كمدرس لمادة الفلسفة والصحافة. (ويكيبيديا)

المفاجأة هنا أنه مع كل هذه التفاصيل التي تتطابق مع شخصية الرواية الرئيسية إلا أن الكاتب لم يشر ولو بطرفٍ خفي إلى أن الرواية تحكي عن هذا الكاتب أو تتناول جزءًا من سيرته، أو يوضح حتى اسم روايته، ولكن على العكس من ذلك تمامًا تم التعامل معه على أنه شخصية روائية تمارس الكتابة، ويكون التداخل بين شخصية الكاتب وبطل روايته، وكان ثمة خيط آخر يشده الكاتب يتعلق بالرواية وعلاقتها بالجوائز:

(( عزيزي، نحن نفكر في المستقبل ولا نسجن أنفسنا بمحدودية الحاضر. هذه الرواية لن تحقق الكثير اليوم. ربما ستثير بعض القلاقل هنا وهناك، وقد تمنع في أكثر من دولة إسلامية، وقد لا تبيع أكثر من مليون نسخة. كاتبها لا يزال مغمورًا اليوم، لكنه بعد سنوات قليلة سيصير نجمًا". ابتسم فرانز. ارتسم على وجهه مزيج من الخبث والخيلاء، وأخذ المنديل ومرره على شفتيه قبل أن يتابع: "سيكون نجمًا تابعًا لنا نوجهه حيث نشاء كيفما نشاء". ثم وضع أصابع يده على طرف الطاولة واقترب بوجهه هامسًا. "خذ مني هذه النصيحة: حان الوقت لتتخلى عن أوهامك الشيوعية. فكر في مصلحتك الذاتية، وفكر في خدمة بني جنسك. هذا العالم لنا. كان لنا وسيبقى لنا"))

حيرة الكاتب وإقحام تفاصيل أخرى 

وهكذا لم تقدم الرواية حكاية عمران المالح فحسب (سواء كان شخصية حقيقية أو روائية) وإنما توجه بها الكاتب توجها آخر، جعله مضمنًا أيضًا لنسيج روايته، ووجد فرصة سانحة لعرض رأيه ووجهة نظره في الجوائز الأدبية وما يجري في كواليسها من مؤامرات وفساد لأجل روائي أو رواية بعينها، وبدلاً من أن يتناول الكاتب هذا الموضوع المهم بشيءٍ من التفصيل المحكم رأى أن يشير إلى عدد من الروايات العربية التي كانت مرشحة بالفعل على القوائم القصيرة لجائزة البوكر العربية تحديدًا، فيسمي رواية (حرب الكلب) و(الوردة هنا وهناك) و(ساعة المدينة) ورواية (شاهد القبر) ولاشك أن أي متابع للجائزة سيعرف الروايات التي يقصدها الكاتب هنا تحديدًا في العام 2018، والمشكلة في ظني ليس أن الكاتب تخلى عن قناعه الأدبي هنا وسعى لأن يبرز رأيه أو انتقاداته لهذه الروايات، ولكن أن تلك الحيلة أو الحبكة لم تكن مفيدة أو ذات مغزى في الرواية، بل إني أرى أنها أضرت الرواية بشكل كبير، وأن فكرة الرواية الأصلية وأساسها القائم على حكاية عمران المالح (سواء الحقيقي أو المتخيّل) كان سيجعل من الرواية عملاً أدبيًا محكمًا ورصينًا أكثر.

على كل حال يذكر للكاتب أن روايته لم تطل أكثر من اللازم، وأنه استطاع رغم إغواء الحكايات وتفاصيلها أن يلم عناصر روايته ويتمها في أقل من مائة صفحة، وأن يقدم لنا صورة أكثر واقعية لليهودي المغربي.

تجدر الإشارة إلى أن محمد سعيد أحجيوج روائي مغربي هذه روايته الثانية ويبدو أنه يتقن كتابة النوفيلات بشكل خاص، فقد سبق هذه الرواية نوفيلا "كافكا في طنجة"، كما ينتظر خلال أيام صدور روايته الثالثة "ليل طنجة" الفائزة بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة عن دار العين المصرية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم