تصف الفلسطينية ابتسام عازم في روايتها “سِفْر الاختفاء”، الصادرة عن “منشورات الجمل”، ببغداد، الحياة الاجتماعية للفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيليّ في تل أبيب ويافا، وكيف أن هناك نفيا وقهرا وضغطا وتضييقا دائما عليهم، بالتزامن مع حالات التداخل التي تقود إلى نشوء علاقات حب أو صداقة مؤقتة لكنها لا تصمد في ظل الخلافات والتناقضات الكثيرة الموجودة.

تبني الكاتبة الفلسطينية ابتسام عازم روايتها “سفر الاختفاء” على فكرة متخيلة تكمن في اختفاء الفلسطينيين من فلسطين، إذ يفيق الإسرائيليون ذات ساعة فيجدون أن العرب الذين يعيشون هناك قد اختفوا تماما. يظنون بداية أن هناك مكائد مدبرة، ثم لا يلبث الأمر أن يتحوّل بالنسبة إليهم إلى أحجية ولغز، فيحاولون جهدهم أن يكتشفوا السر الكامن وراء الاختفاء الجماعي في نفس الوقت.

تسود حالة من الذعر أجواء الإسرائيليين الذين يعلنون حالة الاستنفار القصوى، يستدعون جنود الاحتياط، يطلقون صافرات الإنذار محاولين تجنب ما يتوقعون أنه قد يكون هجوما محتملا، ويقعون بدورهم في فخ انتظار انجلاء الأسباب الغامضة للاختفاء، ينتابهم القلق بعد الإقلاق المديد الذي تسببوا به للفلسطينيين في أرضهم.

تظهر الكاتبة كيف أن أي شيء من قبل الفلسطينيين يوضع في خانة المؤامرة الخطيرة، إذ يوصف اختفاء الفلسطينيين من قبل قادة إسرائيل بأنه إنذار يدل على مؤامرة شنيعة تحاك ضدهم. يتبجحون بديمقراطيتهم وأسطورتهم في بناء دولتهم الحديثة، وتلبيتهم نداء العودة، دون إيلاء أيّ اهتمام للكوارث التي خلفوها، ويظل الاختفاء لغزا يوجب البحث عن إجابات شافية له، يضاف إلى الألغاز الكثيرة المعلقة التي تبحث عن اجتهادات لتبديدها وكشف النقاب عنها.


تظهر الكاتبة كيف أن أي شيء من قبل الفلسطينيين يوضع في خانة المؤامرة الخطيرة التي تحاك ضد الاحتلال

تركّز عازم على دور الذاكرة في المحافظة على جماليات المدن المنكوبة التي يطالها التغيير والتشويه، ويكون بطل الرواية علاء العربيّ صورة نقيضة للآخر أريئيل، بينهما صور نساء كثيرات تعكس لقطات من دورة حياة كاملة تحت القيود المفروضة.


دفتر علاء يكون نافذة أريئيل للإطلال على دواخل صديقه، والنبش في ذاكرته والتنقيب في ركام أحلامه، يصفه أريئيل أنه حبيس الماضي، ويصف حالة قراءة قصص علاء والماضي والحديث الذي لا ينتهي عن المكان وذاكرته، بأنّها أحاديث المهزومين عن أساطير الماضي، في حين أنّ علاء يؤكد أنّ الفلسطينيين يرثون الذاكرة كما يرثون لون العيون ولون البشرة، وأنّه ورث ذاكرة موجعة من جدّته، حيث يشعر بالغربة عن نفسه في مدينته.

يدوّن علاء ساعات ما قبل الاختفاء كأنه يدون سيرة جرحه النازف ليطلع عليه صديقه الذي هو غريمه في الوقت نفسه، صراعهما خفي على الأرض والذاكرة والحاضر والمستقبل، يشتغلان في الصحافة، كلّ منهما يرسم الواقع من زاويته وحسب موقعه وموقفه. يتطوّر الأمر بعد الاختفاء بأريئيل إلى أن يصل به إلى انتحال صورة علاء، فيسطو على دفتره، ويسكن بيته، يجلس على طاولته، يكتب بأقلامه، يحاول تفهّم حالته وسرّ تشبّثه بذاكرته، ويبحث عن تبريرات لما يصفه لديه بأنه عنف وقهر.

يقرأ أريئيل لعلاء الذي كان يحاول أن يذكر نفسه بصوت عال بأسماء الشوارع والبيوت والناس الذين عاشوا في المدن الفلسطينية المحتلة. يعرف قصصهم ويدرك أشواقهم. يسارر جدته ويذكرها بما كان يقوله لها ولم يكن يعجبها، عن أن يافا مدفونة تحت يافا. وكانت تقول له إن يافا موجودة في كل مكان حولنا. وكان يكرر أن الذاكرة حبل نجاته الأخير. وأنه يكتب خوفا من النسيان. يكتب ليتذكر ويذكر خوفا من أن تمحى الذاكرة من الذاكرة.

تتوحّد المدينة في صورة الأم لدى علاء. يتخيل أن جثة أمه هي جثة المدينة. يقول لنفسه إن الجثث هي أيضا أجسادنا الحية. لكنها من جيل النكبة. من ذلك الجيل الذي ولد عندما ولدت النكبة، كأنه جيل لا يستطيع أن يعطي ولكنه لا يعرف كيف يعبر عن الحنان. يصف الشوق بأنه شوك في الروح والقلب.

اليتم شعور معمّم لدى شخصيات الرواية، فالجدة تظن أن اليتم هو البقاء في فلسطين بعد النكبة. وأنه البقاء في يافا. حيث تغيّر كل شيء، كأن فلسطين تهدمت فوق رؤوسهم. وبالنسبة إلى علاء فإنّه يعيش يتما مركبا. يستعيد يتم أبيه الذي تزامن انتحاره مع الحرب على غزّة، ثمّ يصف أمّه وحالة اليتم التي عاشتها ونقلتها إليه.


حواجز وأساطير



تصف الروائية إبتسام عازم حالة الجنود على الحاجز وكيف أنهم يتكبّرون على الناس، يعاملونهم بطريقة سيّئة، تجد المرأة العاملة نفسها تحت رحمتهم، تجلس في السيارة، تنتظر إشارة يد أحدهم التي تسمح لها بالتقدم.مصيرها كل يوم رهن إشارة واحدة من يد أو حتى إصبع جندي، ضمن واقع يقطع فيه الناس الحاجز من فلسطين إلى فلسطين.


ترصد عازم حالة الانتظار وكيف أنّه يصبح محنة المحن كلها. يقضي الفلسطينيّ حياته في الانتظار. انتظار الذين خرجوا كي يعودوا. طوال حياته ينتظر، يتحدث عن الماضي. لكن الحاضر يكبر ويلتهم. الانتظار في أحد وجوهه يعني أن يعيش المرء رغم البؤس والقهر والنسيان، وجرحه مفتوح لا يتوقف عن النزيف، وهو لا يتوقف عن العيش.

الحرب الخفية دائرة على الأرض وفي الدواخل. فأريئيل يصف تل أبيب بأنها صغيرة وجميلة، في شواطئها الحالمة النظيفة والواسعة حلم تحقق. وبالنسبة إليه الغاية تبرر الوسيلة. في حين أنّ المدينة نفسها من وجهة نظر علاء هي صورة نقيضة. إذ لا يحب تل أبيب، ويقول إنّه لا يمكن أن تحبّ شيئا مزيفا، إن المدينة التي لا تستريح، لا تريح أحدا من حولها. كلّ شيء كذب حتى الاسم تل أبيب؛ أي تل الربيع، كذبة. الوهم كاف كي تعاش الكذبة وتصبح حقيقة.

يكون التشابه بين الصديقين اللدودين من حيث تعلّم كل منهما لغة الآخر، فأريئيل الذي أحب العربية وأتقنها، كان يتجسس على رسائل العرب في الجيش، ويترجمها لقادته. وعلاء أتقن العبرية كنوع من المقاومة والاستمرار.

في تسعة وأربعين فصلا، تسرد عازم وقائع سفر الاختفاء، ناقلة أحلام الفلسطينيين الباقين على أرضهم، أولئك الذين يتعرضون لشتى صنوف التعذيب النفسي والتضييق في مختلف المناحي. تبرز أن معاناة من بقي لا تقل مأساة عن معاناة من هجر، والكل في الأسى سواء، ولكل امرئ من التغريبة الكبرى التي عاشتها فلسطين نصيب.

“سفر الاختفاء” ليست محاولة لشيطنة الأعداء، بل هي محاولة روائية لفهم ما يعترك في دواخلهم من أحلام وآمال وتوجّسات، وكيف يبرّرون خطاياهم تبريرات ملفقة في سبيل إيجاد ذرائع لإجرامهم. وكيف أن هناك أجيالا لا تستطيع أن تتفهم حقوق الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم.

عن صحيفة العرب اللندنية 

الاثنين، 21 يوليو، 2014

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم