يصف شربل داغر في إحدى لقاءاته الفنانَ بالطفلِ الذي يلعب. أي أن من الضرورةِ بمكان أن يمتلك الفنان روح طفل، خياله، ودهشته للأشياء؛ ليبدعَ في فنه. والحقيقة أنّ هذا الوصف دفعني لأتعرفَ على شربل داغر في فن الروايةِ بعد أن كنت قد ألفته شاعراً وكاتباً أتتبع ما يكتب من مقالاتٍ هنا وهناك. وصادفَ اليوم التالي أن زرتُ المكتبة، فوقعت عيني على كتابٍ له " ابنة بونابرت المصرية" عنوانٌ ذكي، مفرطٌ في الذكاء اكتشفتُ هذا بعد أن انتهيت من قراءة الرواية، لم يصادفني عنوانٌ ذكي بعد أن قرأت "الحب في زمن الكوليرا" إلّا هذا. غيرَ أنّ تلك الأخيرةَ كانت سرياليّة محضة! وسأتحدثُ عن سبب ذكائه فيما بعد، أما الآن لأدخل في تحليل متن النص دون أن أطيل.
تكونت الرواية من مذكراتٍ لأناسٍ عايشوا نابليون بونابرت زمن قوته وانحداره، فكانت المذكرة الأولى من دفاترِ "جولي بييزوني" وكان لها نصيب الربع الأول من الرواية، استطاع من خلالها الكاتب أن يضعَ مجملَ العقد لروايته، ويستثيرَ دهشةَ القارئ. فكانت تؤرخُ يوميات مرسيليا عند سقوط نابليون ودخول قوات الحلفاء إليها والفوضى التي تبعت دخولهم، وأكثر التوغلَ في سردِ حياتها الشخصية بشكلٍ عبثي. إذ أن القارئَ ليحسب بالوهلة الأولى أن هذه الشخصية ستكون محور الرواية وعامودها الأوحد واستطاع الكاتب أن يوهمَ قارئه بوجودِ عقدٍ ستحلُّ فيما بعد. ولكن ما إن انتهت مذكراتها حتى غابت عن المشهد إلّا لماماً.
فكان خلق هذه الشخصية وعرضِ تفاصيل حياتها بإسهابٍ مع ربطها بأحداث مرسيليا، والوهم بوجود علل والتلميحُ لحلولها. ثمَّ إقصاءها عن النص. كان من هذا كلّه أن جعل النصَّ يفقدُ أحد أطرافه، وأفقده إتزانه.

وحين تتوالى خطى عيني القارئ في هذا النص، سيلتفتُ لفكرةٍ أخَّاذة قد طَغت عليه وصبغته بالرزانة والثقل، وهي الحيادية التاريخية! وهذا أمرٌ قلّما نجده في الروايةِ التاريخية، فلا يكون إلا عندَ بارعٍ، متقنٌ لعمله، مخلصٌ لقلمه. حيثُ أن البعض وإن حاولوا التزام الحيادية تفضحهم زلَّات القلم. وهذا النص وفي هذا الأمر على وجه الخصوص قد خلى من الزلات، فتجده لم ينحز سوى للإنسان وآلامه وقيَّمه.

انطونيو دو باسكاليانو يتكفل بالتحقيق


إن هذا الصحفي حملَ على عاتقه كشفَ ملابسات المجزرة التي فُعِلت بالمماليك، وتحصيلِ حقوقهم، وهُم العصبة العربية والمصرية في أكثرها ممن جاؤوا إلى فرنسا خلالً حملة نابليون على مصر. فكان بعد عزله أن قامت حسبما ظهر، قوى الحلفاء وأنصار الملك لويس الثامن عشر بهذه الفعلة بأنصاره.
مع هذه المذكرات بدأت تظهر الشخصية الرئيسية للرواية: نور ابنه الخادمة آمنة المصرية. وظهرَ برفقتها معظمُ الشخصيات التي لها أدوار بالغة في النص. وبقيَ العرض بطيئًا والعقدُ تتزايد دونَ حلول. إلى أنه وحده ذكاءُ العنوان هو ما يدفعُ القارئ إلى تكملةِ القراءة بتلهفِ الغريقِ للهواء. "ابنة بونابرت المصرية" تقرأ العنوان ودون وعيٍ تحسبُ نفسك إزاءَ روايةٍ عن حياة ابنة لا تعرفها لنابليون، روايةٍ مكانها القصور والجمالُ الفرنسي وسُمُّ السياسة، أو إزاء ابنةٍ غير شرعيةٍ تبحثُ عن فتاتٍ من إرثِ أبيها. لتجدَ نفسك فصلًا وراء فصل وصفحة وراءَ أخرى وحتى الصفحة الأخيرة تبحثُ عمّا تخيلت، فلا تجده. ومع فضول الفاقدِ لصورةٍ من خياله يحاصركَ حدثٌ تاريخي بالغُ الأهمية ارتكزَ بعرضه الكاتب على شخوصٍ من علماء مصر وفرنسا من مترجمين وأساتذة ورجال دين وكُتّاب أجرى على ألسنتهم قصصَ المسحوقين من البسطاء جميعهم صغِرَ شأنهم أم كبر، علت منزلتهم أم هبطت تقاطعت سبلهم بسبب بونابرت وجمعهم بونابرت وكذلك ارتبط مصيرهم بمصيره!
والعرضَ المتأني للأحداث قابله في نهاية الرحلة عرضٌ مبالغٌ في سرعته حدَّ البذخ، ففي أقلَّ من عشرين صفحة حُلّت العقد تباعاً ودونَ ترسيخٍ واستفاضة، الأمر الذي أفقد الحلول معناها، ولم يشبعها كما يجب.
هذا كان رأيي في الرواية وأنا أقرأها وأضع على صفحاتها الملاحظات وأرصفها بالتعليقات، ولكن صفحة استدراك كُتِبَت بعد النهاية جعلتني للحظات أعدل عن رأيي بها. يوضح الكاتب أنّ هذه المذكرات التي صيغت منها الرواية، قد وجدها بطريقةٍ ما في أحد فنادق مرسيليا، فما كان منه إلا أن ترجمها وقدمها للقارئ العربي. ويُرَجِحُ أن تكون ملكيتها لكاتبٍ فرنسي من العصر الرومنسي يدعى: جوزف ميري.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم