يبدو الإجابة عن سؤال الكتابة في الأوضاع الراهنة غير ذي جدوى، ما الدافع وراء الكتابة؟ لماذا نكتب؟ هل هناك فرق بين الموهبة والإبداع؟ هل هناك قيمة يبحث عنها الكاتب في عصر الأكثر مبيعًا؟ بل ربما نذهب إلى أبعد من ذلك إلى كيف تكتب رواية تحقق النجاح والتحقق والشهرة؟ 

ولكن ماذا إذا توقف الكاتب/ المتحقق عن الكتابة؟ وماذا إذا كان هناك ما يلزمه بمواصلة كتابة "رواية" بشكلٍ دوري، كـ عقد مغرٍ مع دار نشر؟ هل سيكون الدافع للكتابة موجودًا؟ هل سيتمكن الكاتب فعلاً من مواصلة كتابته/ إبداعه بعد أن توفرت له تلك الظروف التي ربما يحلم بها الكثيرون؟

من هذه الأسئلة وغيرها ينطلق بنا الروائي هاني عبد المريد، في روايته "عزيزتي سافو" الصادرة مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بصحبة بطله الكاتب "خالد عبد الحميد" الذي أصيب بما يسمى"قفلة الكتابة"، ولم تأت هذه القفلة بشكلٍ عابر أو مفاجئ لكاتبٍ هاوٍ، بل جاءته بعد أن وقع اتفاقًا مع الناشرة يحتم عليه أن يسلمها رواية كل عام.

ولكن الرواية لا تبدأ من هنا، حتى وإن نقلنا الكاتب إلى عالم أسئلة الكتابة المتشابك المحيّر في سطور الرواية الأولى، ولكن الرواية تبدأ من مكانٍ آخر، مختلفٍ تمامًا، ربما لا يتسنى للقارئ في العادة الالتفات إليه، إنها البداية من العنوان والغلاف الذي أحضر الشاعرة اليونانية "سافو" التي سيتعرف القارئ عليها أثناء بحث الراوي/الكاتب عن فكرة تلهمه أو تحفزه لمواصلة كتابة روايته، سافو الشاعرة اليونانية التي ولدت في 630 قبل الميلاد وعاشت في جزيرة لسبوس باليونان، وهي أقدم شاعرة عرفها العالم، ذكرها أكثر من شاعر قديم، وبقيت مخطوطات شعرها على البرديات القديمة.

يلتقي الكاتب بسافو التي تتجلى له فجأة، وتكون كأنما ترشده أو تدله على الطريق، ويدور بينهما عدد من الحوارت الهامة الدالة جدًا والتي ربما تلخص الكثير من أفكار الرواية:

نحن -معشر الكتّاب- نصطاد من الفضاء المحيط ما يتوافق مع أرواحنا، أتدري يا خالد، في كثيرٍ من الأحيان يُخيّل لي أن الكتابة موجودة، كل الكتابة موجودة من حولنا تسبح في الهواء، نتنفسها جميعًا دون أن ندري، لكن عند لحظةٍ ما، أو لنقل في ظروفٍ ما يلتقط كل كاتبٍ منها ما يليق بتجربته وروحه ووعيه .. 

 كان خالد يستمع لها، كلماتها قدر ما بها من تشجيع وربما تحفيز على الكتابة، لكنه استشعرها في بعض الأحيان كلمات مُرفّهة، لا تعرف شيئًا عن نار التجربة، هي تقول ذلك بكل أريحيَّة لأنها تعلم أنها وضعت قدميها في قلب الشعر، تركت بصمتها ولم تعد منزعجة، امرأة ظل العالم لقرونٍ طويلة حين ينطق أحدهم كلمة شاعرة، فإن ذلك يعني "سافو"، أن يكون اسمها هو المرادف للشعر، يحق لها أن تنظّر كما تريد، لكنّها لاتعرف شيئًا عن إنسانٍ يود أن يتحقق، يود أن يصرخ قائلاً أنا هنا، لاتعرف شيئًا حقيقيًا عن أزمة كاتبٍ يفقد صلته بالحياة، يعرف أنّه مهدد بالفناء لو لم ينجح، لكنه لا يعرف بالضبط ماذا عليه أن يفعل؟!

 حيرة الكاتب ويقين الشاعر 

وهكذا يركز هاني عبد المريد على سافو كشاعرة ذات خصوصية ربما لم توجد في عالم الكتابة من قبل، ورغم أنه يأتي على ذكر بعض تفصيلات حياتها وعلاقتها بأخيها، وزوجها وكيف عاشت حياة بائة ونفست وشردت وعاشت مأساة كل من حولها ـ على حد تعبيره ـ وأقامت مدرسة من أجل تعليم الفتيات كيف يعشن ويعبرن عن آلامهن، وكيف يمكن أن تكون التجربة أفضل طريق للكتابة الخالدة التي تبقى بعد آلاف الأعوام.

تبدو الرواية رواية أسئلة بامتياز، ليس فقط لأن أول ما يطالعنا فيها سؤال "كيف تكتب الروايات؟" بالقطع، ولكن لأنها تحاول جاهدةً أن تبث عددًا من الأسئلة في نفس قارئها، سواء تلك التي تتعلق بالكتابة وكيفية مواصلة البطل مهمته التي تبدو شاقة وعسيرة، إلا أنها تجعلنا نتوقف طويلاً لنتساءل عن علاقتنا بالأشياء والأشخاص من حولنا.

تلك الأسئلة والعلاقات التي ستكوّن في النهاية نتيجة ربما لاتعجب القارئ مع شخصياتٍ بدا أنها استطاعت أن تنجو بنفسها وتخلص لإبداعها من زحام الأفكار والأسئلة ..مثل "بولا" الصديق الفنان، الذي أخلص لعمله ولوحاته حتى النهاية، والذي كان أحد الدروس التي لم يتوقف عندها بطل الرواية كثيرًا، ولكنه جاء مؤثرًا فيما بعد.

اسمع يا صغيري أريدك أن تهوّن على نفسك، لاتجعل الأمور تضغط على أعصابك إلى هذا الحد، الكتابة ماكرة، لاتجعلها نقضي على حياتك، يؤسفني أن أقولها لك بهذا الوضوح، الكتابة لعوب، لاتنظر لي هكذا، نعم، الكتابة لعوب تريد أن توهمك أنك عشيقها الأوحد، فتنتزعك، تستخلصك لنفسها فقط، تحصل على عصارة حياتك، لكنّك لابد أن تدرك لعنتها، الكتابة ملعونة يا عزيزي، تمتص حياتك، تجعلك تعيشها فقط على الورق. 

تبدو تجربة الكتابة مغوية، ورغم تلك النصائح والتحذيرات لم يتسجب خالد، بل على العكس أخذ يساوم الناشرة على فكرة أخرى، وهكذا نتعرف في تفاصيل الرواية أيضًا على بعض من كواليس ما يدور في عالم النشر والكتابة في مصر والعالم العربي، حيث يمكن لكاتب أن يصبح بين طرفة عين وانتباهتها من أكثر الكتاب مبيعًا، في الوقت الذي لايزال يبحث فيه حقيقة عن النص والكتابة التي تعبر عنه!

لعبة كسر الإيهام

لايتوقف هاني عبد المريد عند عرض حكاية بطل روايته وحيرته، وطرق بحثه الدؤوب عن أفكار روايته، بل يظهر لنا في الرواية ما يسميه "الراوي العليم" وينتقل من خلاله دفة الحديث في الرواية لتدور حوله وحول معرفته بما سيؤول إليه مصير أبطال الرواية، وكيف أن هذا "الراوي العليم: على دراية بكل التفاصيل، سواء شخصيات الرواية أو تلك الشخصيات التي جلبها الكاتب لكي يلهم كاتبه بالفكرة الجديدة، وهو الذي يعرَّف القارئ بالتفصيل على شخصية الشاعرة سافو وطرفًا من حكايتها.

استطاع هاني عبد المريد أن يمسك خيوط فكرته بشكلٍ جيد، وأن ينتقل بنا في فصول الرواية القصيرة بين حالة الكاتب وحال المجتمع المحيط به، وبين حكايات الأجداد/الأسلاف، على اختلافها وتنوعها، ما بين حكاية جد الناشرة التي تريد أن تفرض عليه رواية بعينها، وحكاية أجداده، وما تحمله من ثراء يخص موضوع "الحكاية" نفسه كونه النجاة والمخلص بشكلٍ واقعي من أمور كثير أحاطت بهم في زمنهم ذاك، وبين الحكايات التي تحملها أشجان ويحملها بولا عن عائلاتهم ومصائرهم.

هاني عبد المريد روائي وقاص مصري مواليد 1973، حازت روايته الأولى "كيراليسيون" على جائزة ساويرس فرع شباب الأدباء عام 2009، كما حصل على جائزة الدولة التشجيعية للتفوق في الآداب عام 2017 عن روايته "أنا العالم" الصادرة عن الكتب خان، وغيرها من الجوائز، صدر له أربع روايات وخمس مجموعات قصصية كان آخرهم "من شرفة بيتهوفن" عن الدار المصرية اللبنانية 2020.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقاطع باللون الأسود الغامق من الرواية.

رواية "عزيزتي سافو" صادرة مؤخرًا عن الهيشة المصرية العامة للكتاب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم