كاتيا الطويل

رواية الكاتبة اللبنانية رينيه الحايك، الصادرة عن دار التنوير بعنوان "الساكتات" عمل روائي مبدع إلى أعمال هذه الكاتبة "الساكتة"، هي الأخرى، كبطلاتها. وقد سبغ السكوت اسم رينيه الحايك، ووسم شخصها بسبب بعدها كل البعد، عن وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الثقافي، ومعارض الكتب. وقد يلوم المرء جائحة "كوفيد"، كما قد يلوم ابتعاد الكاتبة عن أي وسيلة ترويج لعملها، إذ يجب بلوغ هذا النص إلى كل عاشق للرواية العربية المعاصرة.

وبعد روايات عشر ومجموعتين قصصيتين، تقدم رينيه الحايك رواية جديدة تمتاز بتقنية سرد متماسكة، لا تترك مكانا للفراغ السردي أو للتلكؤ في الوصف. ويتسم الفضاء السردي بوصف متين مرصوف بحرفية ومهارة إلى جانب راو سلس يرافق أربع صديقات من النساء الثلاثينيات اللواتي يرزحن تحت نير النوائب والمصائب. أربع نساء يرافقهن الراوي في صراعهن مع الحياة والمرض والموت والزوج وقسوة المجتمع والأحكام المسبقة. أربع قصص تبدو للوهلة الأولى قصص استسلام وخنوع وضعف، لكنها قصص صبر وتفان ومحاربة بالتي هي أحسن، فالصمت في أحيان يكون مرادفاً للقوة الجبارة.

وبقدر ما يجذب العنوان "الساكتات"، ويحمل في طياته معاني الثبات والصلابة وعبثية الشكوى، يأتي الغلاف بصورته ليكرس صورة المرأة القابعة في ركنها، التي تراقب الحياة تسير قربها بصمت، متمنية على الدنيا بمصائبها أن تدعها لنفسها ولشؤونها. مزهرية هادئة وشمس دافئة وامرأة جالسة إلى نافذتها لا نرى منها سوى ظهرها، تُحول قارئ رينيه الحايك إلى متلصص (voyeur)، يرى ما لا يحق له أن يراه، يدخل إلى بيت امرأة لا تدري بوجوده، ويكتشف خفايا قصة أنثى تسلحت بالصمت. تفضح رينيه الحايك المرأة الشرقية التي على اختلاف نماذجها اتسمت بالصمت والصبر والصلابة.

نماذج صمت وصبر وصلابة

ميرا وليلى وسارة وندى. راوٍ خارجي واحد وأربعة فصول وأربعة نماذج لنساء بيروتيات ثلاثينيات لكل منهن مصيبتها، لكل منهن حزنها، والصمت واحد. فيقع قارئ رينيه الحايك على حقل معجمي خاص بالسكوت والصمت، يسيطر على النص بسرده ووصفه، حتى إن هؤلاء الصديقات لا يعترفن بما يثقل عليهن لبعضن، وكأنهن يخجلن بما صرنه، وكأنهن لا يعترفن بالنساء اللواتي أصبحنهن، فتقول ليلى في الفصل الثاني المخصص لها، "ما يريحها هي، أن تُبقي هذه المسائل مطمورة عميقاً في نفسها. وحين تسألها أمها كما اعتادت عن سر وجومها؟ ستخترع حججاً كاذبة تتعلق بالتعب، وبالعمل، وبزملاء غير متعاونين". (ص: 161).

ساسا.jpg

الرواية اللبنانية (دار التنوير)

وجدت نساء الحايك في الصمت مهرباً لهن، وجدن في السكوت كذبةً أو وهماً يخفين فيه ضعفهن وهمومهن. وليس الهم دوماً ناجماً من الرجل، زوجاً أو والداً، هناك مآسي الحياة العظمى التي لا مفر منها، كالمرض واليتم وقسوة المحيط، كالمنافسة في العمل ورفض الابن لرعاية أمه واستبداد المجتمع. فيصف الراوي سارة، بطلة الفصل الثالث، ويصف تمرسها في حرفة الصمت لسنوات بسبب ما طالها من مآس ومصائب قائلاً، "هكذا طورت لديها قدرة على الصمت" (ص: 194)، وكأن الصمت صار مهنة، موهبة، مهارة يمكن تطويرها وتعزيزها وصقلها على مر السنوات.

والسكوت عن المشكلة متوارث، وكأن نساء الشرق بتجاهلهن الأزمة وسكوتهن عنها يجدن السلام والملاذ، فتقول ميرا في الفصل الأول المخصص لها، في وصفها ردة فعل أمها عندما هاجر الشقيقان ميشال ورالف، "من أمها، لم تسمع لا شكوى ولا أي كلمة،... كأن في داخلها بئراً مظلمة تطمس وتخفي فيها كل شيء" (ص: 28). لكن هذه البئر التي رمت فيها الأم همومها وأحزانها استفاقت وابتلعت كل شيء، ابتلعت البئر ذاكرة الأم نفسها لتصاب هذه الأخيرة بألزهايمر، وتغرق في عجز وصمت قسريين.

وصحيح أن الشكوى لغير الله مذلة، وصحيح أيضاً أن أموراً كثيرة لا تتغير بالكلام فيها، لكن الصمت بات العذر والتأجيل والمهرب، ليس وكأن نساء الحايك في إنكار لواقعهن، (in denial)، لكنهن اختبأن في الصمت، أجلن الحزن وتحايلن على المصيبة وقبلن بنوائب الحياة بأن أدرن وجوههن عنها. ليس الصمت هنا مرادفاً للكذب على النفس، هو بالأحرى هدهدة لها، طريقة مواجهة أو طريق نحو إيجاد قوة داخلية، فتقول ليلى عن نفسها على الرغم مما تبدو عليه من صلابة وعزيمة وصمت، "في أعماقها تعلم أنها ليست بالقوة التي يتصورها الآخرون" (ص: 110).

القسوة الذكورية

لا تخطئ الحايك عندما تورد آية من سفر أيوب تجسد ما يصيب نساءها قائلةً، "هل قوتي قوة الحجارة. هل لحمي نحاس. (أيوب 6: 12)" (ص: 175). شجاعة هذه النساء ورباطة جأشهن تتكرسان في صمت يوازي صمت الجبال، ميرا تواجه ألزهايمر والدتها، ومرضها الذي يبتلعها رويداً رويداً، ويوهنها أمام عينيها، ليلى تواجه قنينة الويسكي التي تُغرق زوجها في بحور القسوة والأنانية والتعنت، سارة تواجه الخيانة والأحكام المسبقة وقسوة الابن، وندى التي تبدو مصائبها أهون المصائب، تعاني من يتم أبدي وخوف لا ينام من الموت والمرض والوحدة.

نساء يصبرن ويهربن إلى الصمت، عندما لا يجدن من يستمع إليهن أو عندما تخفى الحلول. وكأن الصمت أصبح عباءة يلبسنها ليتمسكن بالصبر والشجاعة والصلابة. مواقف صعبة لا مغيث فيها، مواقف لا مفر منها سوى السير إلى الهوة، فتقول سارة المعلمة التي ترى عائلتها تنسل من بين يديها مع كل فجر جديد، "تستطيع أن تلقي محاضرة جامعية وتحكي لثلاث ساعات متواصلة عن بروست، ولكن إن أرادت أن تخبر عن نفسها، تختار قشور حياتها... تنتقد الدولة على التلوث والفساد وعجقة السير وأشياء تافهة أخرى تُشعِرُها بالخواء والزعل من نفسها". (ص: 203).

وعلى الرغم من أن الكاتبة والمترجمة اللبنانية رينيه الحايك مالت في كتاباتها عموماً إلى طرق مواضيع الأرض والهجرة والحرب اللبنانية، إلا أن المرأة ومعاناتها متجذرة في نسيج هذا العمل الروائي الممعن في رسم المرأة اللبنانية من نواح متعددة، فنجد الأنثى الابنة والأنثى الشقيقة والأنثى الزوجة والأنثى العاملة والأنثى العزباء والأنثى الأم والأنثى المطلقة والأنثى المربية والأنثى المناضلة من أجل حقوق النساء. جميعهن نساء لبنانيات عربيات مشرقيات، جميعهن نساء "ساكتات".

"ساكتات" رواية قد يصنفها البعض نسوية، لكنه تصنيف مجحف عموماً، فـ"الساكتات" رواية كلاسيكية متماسكة ثاقبة يتحالف فيها الوصف المتين مع السرد المتقن الحافل بالعودات إلى الوراء، لترسم رينيه الحايك فسيفساء الأنثى الشرقية بوجوهها المختلفة والتحديات التي تواجهها وسكوتها الأزلي، السلاح الذي يفتك ويحمي في الوقت نفسه.

عن إندبندنت عربية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم