منال عبد الأحد

تعتبر الحرب والاحتلال - اللذان فتكا بطول البلاد وعرضها ومماهاتهما بمأساة المرأة في مجتمعات عربية لم ترحمها لا الظروف ولا العباد - تيمةً مألوفة في كثير من الأعمال القصصية، الفنية والروائية. لكنّ اللافت في رواية "خان الشابندر" لمحمد حيّاوي (دار الأداب) هو أن الكاتب يغلِّب فيها طابعًا فلسفيًا يسبر فيه أعماق المرأة المهشّمة من الداخل، ليس هباءً، وإنما ليسند إليها دورًا لا يهمّشها ويتركها أسيرة ألمها، إنما ينكأ جراحها لتولد منها آلام جديدة تتتالى يوميًا فتبقيها على قيد الحياة، وإن على قيد الألم.

في أحد بيوت الدعارة يتعرّف الراوي (علي) إلى ثلاث فتيات: ضوية، هند، لوصة. ويحاول تفكيك لغز حكاية كل منهن ومعرفة السبب الذي دفع بها إلى هذا الوكر، بصفته صحافيًا يعدّ مادة استقصائية في هذا الخصوص.

يتعرّف علي، العائد أخيرًا إلى العراق، إلى المدينة بنسختها الجديدة بعد كل ما فتك بها من كوارث وويلات واعتداءات. وربما هنا تكمن المتاهة الأولى التي يقع فيها الكاتب، إذ يكتفي بتضمين النصّ كلّ مصادفات الراوي (علي) عبر  تجربة تنقّله ليقتصر على التفاصيل الآنية اللحظوية من دون أن يضعها في إطارها الزمني الحقبي، الذي يوضح للقارئ طقوس الرواية ومناخاتها. فيكتفي الكاتب بإلصاق بعض الحكايا التي تبدو آنية في زمان ما غير متضح المعالم، مما يبعد الرواية عن إمكان كونها مرآة تعكس حالة الواقع العراقي. ونعزو ذلك إلى أنه أسند مهمة الراوي إلى البطل نفسه –علي – مما ضيّق دائرة السرد وضاءل احتمالاته وحشره في ركن الشخصانية.

أما صفة الصحافي المثقف فمنحت شخصية علي بعدًا عميقًا، ومنحت الرواية نفحات شاعرية أضفت عليها أحيانًا طابعًا أسطوريًا، لاسيّما أن الكاتب يضع لقطات سوريالية أو مشاهد مأساوية ممعنة في التراجيديا كمشهد رؤوس الفتيات المعلّقة وهي تنزف دماءً تحت المطر، كأن الماء ترحمها حين تغسلها من الدماء.

وتظهر أيضًا الحرفية العالية في الوصف وفي المشاهد الحميمة، خصوصًا تلك التي تجمع علي بـهند بعدما عجز عن مقاومة سحرها، بحيث يبتعد الوصف عن الابتذال ليرسم الكاتب لوحة جمالية تضجّ فيها مشاعر متأججة.

ففي الحديث عن المرأة يتنقّل الكاتب برشاقة بين المحسوس والمتخيّل وتأثير كل منهما  عليه. إذ إنه قرر في البدء عدم إقامة أية علاقة مع الفتيات لأنه آثر احترامهن، غير أنه سرعان ما استسلم لسحرهن كلّ على طريقتها. "إن أحببتنا، ولو لبعض الوقت، لن نتركك تغادر سالـمًا. قالت هند ذات ليلة ضاجة بالقبل وانفجارات القنابل المدوّية... لكننا سننقذ روحك من الغرق والتحطم... سنفتح لك كنوز صدورنا الحانية، ونأخذك إلى آخر الخيال" (ص 8). ويرد "علي" في الصفحتين 116 - 117: "شيئ ما، بعيدًا جدًا في أعماقي يحترق الآن. أعتقد أننا نرتكب حماقة ما أو نجترح معجزة ما. يستطيع أي أحمق ممارسة الجنس لكن قوة ما جامحة تتحكم بي".

يأتي هذا الانسجام في المضمون أشبه بمحاكاة للنص على مدى أكثر من 108 صفحات  وخير دليل على إحكام الكاتب سيطرته بالكامل على زمام حبكته، بحيث يبدو حديث علي في الصفحتين 116 – 117 تأكيدًا لما قالته له هند في الصفحة 8.

إذًا، على رغم وفرة العثرات، يحافظ الكاتب على الرابط الأساسي بين الراوي والبطلات الثلاث وإن لم ينجح في خلق طقس خاص بنصه الروائي. فيما يبقى حضور الصديقة نيفين خجولًا وتظلّ هي المستمعة لـعلي والتي تفشل غالبًا في ثنيه عن القيام بمغامراته المجنونة. وكأن حضورها أشبه بعنصر "استيتيكي" يغلّب الطابع الحواري على نصٍ يبتعد عن السردية ليبدو حواريًا تفاعليًا.

يحاول الكاتب / الراوي من خلال هذه الرواية أن يسبر أغوار هذا العالم السري بكل  مكنوناته من فوق الخراب والدمار والعنف والقتل في ظلّ الاحتلال، ساعيًا إلى رسم ملامح جديدة للذات العراقية بكل مكنوناتها، متطلّعًا إلى المستقبل، فنجوب معه الشوارع وحيدًا حينًا وبصحبة بياعة "الكعك" -وهي ترشده إلى الطريق - أحيانًا.

عالم الرواية مليء بالانفجارات والرعب، تعيش فيه كل من هند وضوية ولوصة قاب قوسين من الموت. وفي المقابل، تأتي فنتازيا الجسد لتزيد الوضع تأجّجًا. ويضفي حضور الفيلسوف (مجر)، الذي يتجاوز عمره المئة عام ألقًا خاصًا على النص متنقلًا بين الرمزية والواقع، بحيث يعجز القارئ عن الجزم، وذلك أسوة بأمور كثيرة أخرى تتأرجح بين الواقعي والأسطوري.

إنه حاضرنا، كابوسنا الحالي، الذي يضجّ بالموت والقتل والعنف والتطرف والاحتلال  والخوف. هي لغتنا الحالية حاضرة بكل مفردات الموت والحزن والعنف في النص، على رغم تعابير الرغبة. فالمشاعر تتأجج في الحروب، أو على الأقل هكذا يُشاع. وهذا ما نجح الكاتب في إظهاره. هو لم ينحز للمأساة على حساب الرغبة ولا أكثر من استخدام الشهوة ليجذب القارئ بل أعدّ خلطته جيّدًا بمعاييرها الإنسانية العفوية الخالصة.

لغة النص من نوع السهل الممتنع، فيها بعض الكلمات العامية التي تجعلها أقرب إلى القارئ، إنما تشوبها الأخطاء الإملائية واللغوية.

*نشرتها جريدة "الحياة" اللندنية بتاريخ 27 آب / أغسطس 2016.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم