منال عبد الأحد

يصطحبنا الكاتب المصري أشرف الصباغ في روايته "شَرطي هو الفرح" (دار الآداب) بجولة تمتطي الواقع حينًا وتذهب على أجنحة الخيال أحيانًا، نحو خصوصية المجتمع المصري وما يعانيه من بؤس وفقر، فتخرج من عمق الأسطورة لتشكّل عالمًا حقيقيًا. وجعل من اللعنة تيمة أساسية لروايته ممعنًا في التعمّق بفلسفة الحياة واستمرارية الوجود.

يتصدّى الكاتبلسطوة العادات والتقاليد، فيروي وقائع متعددة قد تبدو أحيانًا غير مرتبطة ببعضها بعضًا لكنّه يجمعها بمقاربة عميقة تصهرها ضمن قالب روائي واحد يقف قارؤه أمام حيثياته وتفاصيله غير قادر على تجاهل ما يطالعه من وقائع محاولًا فك رمزيتها وسبر أغوار أبعادها.

في مجتمع يرزح تحت ألم الفقر والبؤس، تصيب يوسف الطفل لعنات كثيرة ترافقه في رحلته من الريف المصري إلى المدينة. يفقد أصابعه في ورشة "الكاوتش" حيث راح يعمل بعد انتهاء دوام مدرسته اليومي ليساهم في إعالة أسرته، ونمضي معه في رحلته الحياتية هذه ليطالعنا يوسف الرجل الذي يتخبّط بين الماضي والحاضر ونظرته إلى الحب والمرأة.

يروي الكاتب على لسان يوسف الفروق الكبيرة بين المرأة في المدينة التي تراوغ أحيانًا حدّ التلاعب في مشاعر الرجل - فشرطها هو الفرح - والمرأة الريفية التي قد تقضي نحبها على يد رجل يبرحها ضربًا كما حصل لجدته: "وعندما ماتت جدتنا الكبرى بعد علقة ساخنة على يد جدي" (ص 72).

وهذا ما يبيّنه الكاتب على امتداد صفحات الرواية، بحيث كان يحكي عن معاناة نساء العائلة والبلدة في الأجزاء التي كان يسترجع فيها يوميات يوسف في الريف قبل أن ينتقل مع عائلته إلى المدينة، ومن ثمّ يتطرّق لتجارب يوسف مع نساء المدينة، أو في شكل أدقّ مع تلك التي يُفترَض أن تكون خليلته.

لا يتوانى الصباغ عن وضع روايته في إطار الزمان والمكان لينخرط السرد في السياسة وأحاديثها التي تسيطر على أجواء الحانات، ويتّخذ وقفًا واضحًا مما يجري على لسان مرتادي إحداها: "شعب غبي عمل ثورة ليخلص من نظام فجاء بنظام أوسخ" (ص 15).

 وتأخذ الأساطير حيّزًا كبيرًا في الرواية، فيتحدّث الكاتب عن اللعنة التي ترافق المرأة أحيانًا كما جرى مع العمّة عزيزة التي كان يسكنها الجنّ ما أفشل زواجيها، وعند عودتها في المرة الثانية والتأكّد من عذريتها قرروا التخلص منها وتطهيرها مرة أخرى، فـ"ساقوها كالذبيحة وأرقدوها على ظهرها وأمسكوا بيديها ورأسها وكتموا صراخها" (ص 98)، وسرعان ما ماتت نتيجة تداعيات تلك الحادثة.

تتعدد شخصيات الرواية بحيث يضفي الكاتب خصوصية على كلّ منها بما يعزز متانة العقدة الروائية ويجعل القارئ أكثر تمسّكًا بمعرفة ما سيلي من أحداث. ويتّخذ الطابع التحليلي والفلسفي للرواية دور عنصر التشويق الذي يستحوذ على اهتمام القارئ ويبقيه على بينة بكافة تفاصيل ما يحدث، لتنجلي أمامه صورة واضحة عن معاناة المرأة والاستبداد الذي تعانيه. كما يحكي الصباغ عن المرأة العاملة واصفًا إيّاها: "العضاضة" التي لم تسلم من سخرية أهالي القرية، هي التي تنوح في المآتم وتغني في الأفراح.

وفي إطار معالجته العميقة للأبعاد السيكولوجية، يتوقف الكاتب عند علاقة الناس بمعتقداتهم التي كان وجودها في معظم الأحيان اجتهادًا شخصيًا منهم، ثم يعود ليركز على تشابه أبناء الريف والمدينة في هذا المضمار.

ولعل الطابع الرومانسي لتلك العلاقة التي تربط محفوظة بـيوسف هو ما لم يجده في المدينة حيث حبيبته التي تبحث عن الفرح: "إذا أردت أن تحب فتعال؛ وإذا أردت أن تفهم، فاذهب ثانية إلى المدرسة؛ وإذا أردت حنان الأم، فدعني وشأني. اذهب إلى حضن أمك، أو ابحث لنفسك عن مربية: أنا امرأة للحب" (ص 22)؛ فيما يتخّذ طابع العلاقة الجنسية التي أقامها يوسف مع محفوظة نفحة عاطفية تختلف تمامًا.

ما يميّز أسلوب الصباغ في السرد هو انتقاؤه كلماته بعناية بحيث تشعر عند وصفه مشهدًا ما أنك تراه أمامك في الواقع، فتتفاعل معه على امتداد صفحات الرواية وفي مختلف مجرياتها التي تتعدد وتتشعّب مع اختلاف الشخصيات وحكاياتهم.

وبين الجزء والآخر تجد في الرواية أحداثًا تستحق التوقف عندها كحكاية الشيخ السباعي مع نعيمة، قريبة الجدّة الصغرى التي أوقعتها ظروفها تحت رحمته فما كان منه إلا أن طلب منها الزواج وحاول أن ينتزع منها ما تملكه ويجبرها على أمور غريبة، فما كان منها إلا أن فضحته أمام أهل القرية جميعًا.

"شرطي هو الفرح" رواية ذات طابع فلسفي تحاكي الواقع الاجتماعي والحياتي في مصر بأسلوب معبِّر وشيّق، وإن لم تخلُ من بعض الأخطاء اللغوية. تصطحبك الرواية بجولة على الريف المصري فتتحسّس الواقع بكل تناقضاته وغرائبه واعتقاداته، وكأنّه يتعرّى أمامك بشفافية مطلقة، ثم تصل بك إلى ضوضاء المدينة واختلاط المشاعر والتجارب فيها، حيث تشبه معاناة الأحياء الشعبية في القاهرة حال أهل الريف، فيحاول الصباغ أن يرسم صورة بانورامية لواقع الحال متنقّلًا برشاقة بين الريف والمدينة، من دون أن يغفل أي تفصيل قد يساهم في إيصال وقائع الحدث إلى القارئ. فرواية الصباغ دسمة تتميّز بمقاربتها الاستيتيكية المتقنة لواقع الأمور، نشعر معها بأننا نتأمل لوحة تجريدية تكتنز في خباياها الكثير من المعاني.  

*نشرتها جريدة "الحياة" اللندنية بتاريخ 16 نيسان/ابريل 2017.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم