نبيل سليمان

يصدر ممدوح عزام روايته الجديدة "حبر الغراب" (دار سرد ودار ممدوح عدوان 2021) بقول محمود درويش "الحقيقة بيضاء فاكتب عليها/ بحبر الغراب". وكما جاء العنوان من هذه العتبة، كان عنوان رواية عزام "نساء الخيال" (2011) قد جاء من تصديرها بقول درويش: "سأجلس وحيداً كأني على موعد مع إحدى نساء الخيال". ولئن كان ذلك يؤشر إلى النسب الشعري للعنوان، كعتبة أولى وأهم، فهو في "حبر الغراب" يعجل بالسؤال عن الحقيقة البيضاء التي تكتبها، فترمز لها منذ السطور الأولى بالمكتبة. وتتغلل هذه البداية بالبوليسية وما يرتبط بها عادة من التشويق والتحقيق، حيث نهبت مكتبة البلدة (السماقيات من ريف السويداء السورية)، وقتل القيوم عليها فارس أبو لوز، وحيث ينكر لقمان لقمان في التحقيق وجود المكتبة، ويقلب قتل فارس إلى انتحار، ويعطي توفيق الخضراء ورقة فيها سبعة أسماء، ستقوم الرواية على لقاء السارد بهم أشبه بالمحقق الذي يتقصى كتب المكتبة وحقيقة ما حل بها وبالقائم عليها.

قد تكون مفيدةً العودة إلى رواية ممدوح عزام "أرض الكلام" (2005) لما يصل بينها وبين "حبر الغراب" حتى لتبدو كجزأين. ففي الأولى يكتب الشاب فيصل الخضرا قصص الفصل الثالث، ويكتب والده المعلم المتقاعد توفيق الخضرا مذكراته. وهاتان الشخصيتان المحوريتان تحضران في "حبر الغراب" مع محمودة ولقمان مع كاميرا نيازي ومكتبة حليم الزهر... وإذا كانت "أرض الكلام" رهن سنوات الوحدة السورية المصرية فـ"حبر الغراب" رهن ما تلا من سنوات الانفصال ومجيء حزب البعث الذي لا يزال مسيطراً بعد قرابة ستين سنة. أما الفضاء المركزي للروايتين/ الجزأين فهو السماقيات والسويداء. مع مجيء البعث (1963) دخلت البلاد – كما تكتب الرواية – في زمن انعدام الثقة ووشايات المخبرين ورصدهم الأنفاس في التقارير، كذلك السجون الجديدة وغياب العدالة، ومحاولة الضابط سليم حاطوم الفاشلة بالانقلاب على رفاقه، وصراع القادة الذي سماه كمال الفهد صراع الذباب على حبة السكر. وبينما بات الكلام في السياسة خطراً أطلق الحزب الحاكم موجة التوظيف إغراءً للناس بالانتساب إليه، إلى أن بات كائناً خرافياً يبعث الرعب في الكائنات. وهذا "المجهول" هو ضابط الإيقاع الخفي الذي يقود خطى من حكموا البلاد بعد تدمير المكتبة. كما باتت الدولة التي تقطن بعيداً عن البشر، كأنها تدير شؤونها بالعصا والكرباج. هكذا تطلق الرواية السؤال: كيف يمكن أن تحب هذا؟

حححح.jpg

الرواية السورية (دار سرد وممدوح عدوان)

يقود لطفي الجمل تدمير مكتبة السماقيات عام 1963، لأنها رجس غامض من إرث الماضي. ويشع الرمز بلطافة من هذا الفعل الروائي المركزي والحاسم، حيث يكون لبلدة السماقيات جهاز للشرطة، ثم يكون لها بعد 1963 الأمن السياسي وأمن الدولة والاستخبارات، لكن من أخذوا كتب المكتبة المدمرة ظلوا مجهولين على الرغم من أن لطفي الجمل ظل يلاحق الكتب المخفية "فهل هذا من مكر التاريخ؟".

رواية المكتبة

تعانق "حبر الغراب" الروايات التي قامت بالمكتبة قيامتها، فتذكرنا بأكثر الكتاب تولهاً بالمكتبة: بورخيس، صاحب "مكتبة بابل" والحالم بمكتبة كونية ولا نهائية، أو ألبرتو مانغويل "الرجل المكتبة" الذي عنون فصول كتابه "المكتبة في الليل" بالمكتبة هويةً، والمكتبة أسطورةً، ووطناً وورشةً. ولا ننسى مكتبة الدير الغامضة في رواية أمبرتو إيكو "اسم الوردة" التي صممت كمتاهة، ومثلها المكتبة/ المتاهة في رواية أفونسو كروش "الكتب التي التهمت والدي"، حيث بلغت أنسنة الكتاب أقصاها، إذ يصبح الناس كتباً. وأخيراً – وليس آخراً – المكتبة المتخيلة في رواية مات هيغ "مكتبة منتصف الليل"، وهي المكتبة اللانهائية ذات الرفوف الممتدة بلا نهاية، والقائمة على الحد الدقيق بين الحياة والموت، والملاذ للذين على الصراط بينهما.

عربياً، تحضرني مكتبتان روائيتان، الأولى من رواية إبراهيم الفرغلي "معبد أنامل الحرير"، وفي مدينة الأنفاق منها، تقوم الرواية كوطن، كقرية كونية ومدينة عالمية، كطيف ومتاهة تأسيساً على كتاب مانغويل "المكتبة في الليل". وفي رواية الفرغلي بخاصة، مما سيشغل رواية "حبر الغراب"، تأتي لعبة النسخ والنساخين. أما الثانية فمن رواية خيري الذهبي "المكتبة السرية والجنرال"، وهي مكتبة عائلة اليازجي المتوارثة المحرمة على الغرباء، والتي تسلم نفسها لمن تريد، وتقتل من يحاول العبث بحرمتها. وقد دمر النظام الحي الذي يخفي المكتبة بعد يأسه من العثور عليها، فالجنرال يراها كنزاً وذاكرة بحجم مدينة.

ممممم.jpg

الروائي السوري ممدوح عزام (دار سرد وممدوح عدوان) 

بالعودة إلى "حبر الغراب"، وعبر ما يرويه الأب والابن: توفيق الخضرا وفيصل الخضرا، وعبر لعبة التحقيق مع قائمة لقمان بالأسماء السبعة، تبدو المكتبة في الألبومات التي التقطت صورها كاميرا نازي حطاب، بائدةً ومهملة وغارقة في "زمن رث مستهتر غريب"، يغزوها حمقى طائشون، وهي تظهر سخاءً بلا حدود، بينما الكتب تنبع من كل مكان، وكل رف من رفوف المكتبة مثل كائن مبقور الأحشاء.مع ما يتعلق بالمكتبة من كل واحد من الأسماء تأتي قصة صاحبه. فوالد نازي اختار له هذا الاسم بسبب الولاء لهتلر. وقد قضى نازي في الكونغو، وعينه (الكاميرا) هي ما وثق جريمة قتل فارس "ضحية البلاهة القبلية والحزبية"، حيث بدت المكتبة عدواً للمهاجمين الذين لم يجدوا ما يبتغون، فقادتهم هزيمتهم إلى عقلية السفاح.

حرق الكتب

بعد نازي يأتي أسعد صبحي وكتاب "بول وفرجيين" في مكتبته من أثر المكتبة المدمرة، وقصة محمودة وزواجهما وما يرى أسعد من تماهي محمودة مع إيما في رواية "مدام بوفاري"... وتلي قصة فؤاد أبو علم الذي كان قد استعار رواية مكسيم غوركي "الأم" خمسين مرة أو أكثر عندما هوجمت المكتبة، وسكنه رهاب المطاردة، وهو العليم بأن لطفي الجمل أراد حرق الكتب، وليس نهبها، فالنهب لا يضيعها، بل يوزعها بين الناس. وفؤاد الذي عاش حلمه بأن يكون بافل بطل رواية (الأم) أوقف الحلم بعد تدمير المكتبة.

مع شخصية راضية الحلبي تأتي من كتب المكتبة ثلاثية نجيب محفوظ وروايته "السراب" ويبرز تقويل الشخصية بصدد "اللذة" التي يمكن أن تكون حتى في لحظة الموت، وهي لا تموت "إذ إنها مثل الموسيقى يمكن استعادتها والشعور بها بعد زوالها، ولا تنتهي إلا إذا متنا نحن". أما كمال الفهد الذي لم يزر المكتبة، واندفع في الهجوم عليها، ورأى الكتب مبعثرة مثل قتلى، فقد استولى على الكتاب الذي يسكنه: "قادة الفكر". ومع حاتم غزال وقصة تشيخوف "صاحبة الكلب الصغير" يأتي التنقيب في تاريخ المكتبة بدافع الحب. فسيرة المكتبة تقرب حاتم إلى نجوى. ثم تلي في قصة كاميليا روايتا توفيق الحكيم "زهرة العمر" و"سجن العمر"، وتلي رواية هيغو "البؤساء" في قصة مسعود... وبين قصة شخصية وكتاب، وأخرى، يومض فارس أبولوز الذي يتقمص زيد الغبار المعلم في الجيل السابق (ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين) وقضى بطلقة طائشة. وقد تحول فارس إلى حكواتي بفضل القراءات الجماعية التي نظمها، كما نظم نسخ المخطوطات بالاتفاق مع الخطاط الذي اختفى بعد دمار المكتبة.

يكثر فارس أبو لوز من وصف نفسه بالحمار. وقد ابتكر نظرية الحمرنة المستمدة من طيبة الحمير، والتي تصلح لتجاهل المصاعب. ويعقب الراوي بأن نظرية فارس قد تسببت بالألم لكثيرين، إذا ما من أحد يعترف بأنه حمار أو يتحمرن. وكان فارس قد اعتزل مذ عاد إلى السماقيات، ولم يغادر عزلته حتى إنشاء المكتبة، وكان قد كتب "لا أجد مثل الحمار قادراً على أن يكون سيد العزلة". وفي قصة فارس الذي أبعده الفقر عن المدرسة وعن السماقيات إلى السويداء، عمله في العتالة وأخواتها إلى أن أسند إليه أستاذه سليم الراضي ترتيب مكتبته التي يعادل خوفه عليها خوفه على حياته. وقد بلغ توحد فارس بالكتب أنه ما عاد يعرف ما إن كان ما يمر أمامه سيرة حياته هو أم سيرة حياة هذه الكتب.

شغلت المكتبة (الضائعة) توفيق الخضرا وابنه فيصل الخضرا الذي عثر على مذكرات الأب بعد رحيله. والأب الذي شهر به البعثيون بعد دمار المكتبة، وتحول من معلم إلى "دكانجي"، منحته المكتبة سبباً للبقاء والمقاومة، وجرب الكتابة الروائية في روايته "المكتبة البيضاء". ويذكر تتبعه لمصائر الكتب ببائع الكتب على الرصيف النقيب السابق عثمان في رواية محمد كامل الخطيب "الأشجار الصغيرة" 1999، والتي خضر الغراب هي الأخرى في صدرها، من قول ييتس "لا بد من جيل آخر يطعم الغراب". ففي رواية "حبر الغراب" يبدأ تتبع الكتب من بائعها فوزي النجار، بينما تبدأ رواية الخطيب ببيع يوسف طه لكتبه إلى الضابط السابق قائد الشرطة العسكرية زمن أديب الشيشكلي في مطلع خمسينيات القرن الماضي. والأهم هو هذا الصدى الذي يتردد في رواية الخطيب عن أناس غيرت الكتب حياتها، مثل دون كيخوته.

أضاف ممدوح عزام بـ"حبر الغراب" إلى عقده الروائي النظيم لؤلؤة أخرى، يمتص فيها الكلاسيكي من الحداثي ما يشاء، والعكس صحيح.

عن إندبندنت عربية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم