سعيد خطيبي

تبدو رواية «أصابع مريم»، للوهلة الأولى، رواية عادية، قد يتبادر في ذهن القارئ أنها لا تخرج عن المتعارف عليه، تتبع في بداياتها تقلبات زوج عماني: حمد ومريم، تجره إلى يومياتهما البسيطة وحروبهما الصغيرة، ومناوراتهما لعيش أفضل في مسقط وما جاورها، تبدو رواية قصص عائلية، سبق أن قرأنا مثلها، لكن شيئاً فشيئاً مع توالي الفصول يرتفع الإيقاع، يتوارى العادي وتحل محله الاستثناءات، يتراجع التوصيف المتباطئ والرتم المنخفض وتتسع التعقيدات التي تربط بين الشخوص، تتضاءل مساحة الراوي المستفرد بالحكي، ويتيح الفرصة لرواة جدد، يتضاعف عدد الشخصيات، الرئيسية منها والثانوية، وتنفتح الرواية على تعددية سردية، كما لو أن البداية لم تكن سوى شارة سوف تحيلنا إلى مشاهد متسارعة، في تأريخ للمكان ولساكنته. تنطلق «أصابع مريم» للعمانية عزيزة الطائي (الصادرة عن دار الفراشة)، من قصة عائلية، قبل أن توسع نظرها إلى مجتمع بأكمله، بتنوعه العرقي والمذهبي وصداماته، تبدأ من سبعينيات القرن الفائت، وصولاً إلى مطلع القرن الجديد، وفي هذا المسار الزمني لا تكتفي الكاتبة بحكاية عائلة مريم، بل تمد خيط سردها إلى حكايات عائلات البلد، التي تحاول الحفاظ على توازن في سلطنة مفتوحة على الاختلاف.
في واحد من المقاطع، تصف الكاتبة، على السريع، جزءاً من اعتصامات تزامنت مع الربيع العربي، في مسقط، وتتساءل على لسان واحدة من شخصياتها: «يبدو أن عدوى الربيع العربي انتقلت عندنا كذلك. وانهالت على مسامعها مطالب المعتصمين»، رغم أن «الربيع العماني» كان خافتاً، لم يلبث أن تبدد، فإنه كان يضمر ربيعاً آخر في جوفه، ثورة أخرى، ثورة نسوة، خمس نساء تدور حولهن الرواية: الأم مريم وبناتها: ابتسام، نوال، إيمان ووفاء. جل الرواية يقوم على هذا الخماسي، لكن قبل الوصل إليهن لا بد من المرور بالأب حمد، الذي عاد من روسيا يحمل شهادة عليا، وأيضاً حباً غير منته مع فتاة روسية، ما يبعث على الغيرة في قلب مريم، التي لم تفلح في مداواته من حب عشيقته القديمة، ولكن أيضاً ميله للاشتراكية والفودكا، هذا التحول في سيرة شخصية حمد سيكون حاسماً، على الرغم مما يبدو عليه في البداية أنه صورة نمطية لكل عربي عاش في موسكو، لأن هذا التناقض بين حمد ومريم، القادمة من عائلة محافظة، سوف يكون دينامو الصراع بينهما، ومحفزاً للطفرات التي سوف تتبناها بناتهما.
مع ذلك يبدو أن عزيزة الطائي حملت شخصية حمد أكثر مما تحتمل، حملته الموسيقى والأدب الروسيين، اللذين استفرد بهما على خلاف بقية عائلته، ولم يورث منهما أثراً في بناته سوى قليل، لكن بمجرد وفاته سوف ينقطع هذا الإرث السوفييتي من الرواية، ولا يظهر سوى ضبابي في وقت لاحق، والأهم أن الصراع الذي دام طويلاً بين الرجل وزوجته، ستتوارثه عنهما بناتهما الأربع.

في هذه البانوراما التي تعرضها عزيزة الطائي، في «أصابع مريم»، عن أربع نسوة، اللواتي يشكلن أصابع الأم مريم مع إصبع خامس ضاع منها وكان زوجها، في خلافاتهن اليومية، في صداماتهن، تبرز معالم ثورة النساء ورغبتهن الصامتة في التحرر، الذي يبدو أنه مسألة فردية لا جماعية، لا تجد فيها المرأة داعما سوى صبرها وقدرتها على التحمل.

ضد المذهب والقبيلة

تقر مريم بأنها فشلت في التخلص من شبح حمد بعد وفاته، جربت أن تفتح قلبها إلى رجل آخر، لكن طيف أرملها لم يفارقها، ليس وفاءً له، بل لأنها خلفت بنات يذكرنها به، لعل أهمهن ابتسام، التي سوف تكون سبباً في تحريك أحداث الرواية والرفع من تشابك وقائعها، فقد كانت أقرب البنات إلى مزاج الوالد، قلقة وميالة للاختلاف مثله، حيث تضع القارئ في واحد من أعقد الصراعات في عُمان، فهي السنية التي سوف تحب شيعياً يدعى حسين، ما يستدعي تدخل أمها الوفية إلى تربيتها المغلقة، وتحاول صدها عنه، في هذه اللحظة تسرّع الطائي من وتيرة حكايتها في إحالة القارئ على ذلك الصراع المتجدد كل مرة بين سنة وشيعة، كيف أن المذهب سيكون سبباً في تحديد مصائر البشر، إن الدين ليس مجرد عقيدة بل هو أيضاً بطاقة هوية، وإن الانتقال من مذهب إلى آخر يشبه عبور محيط، رغم أن ابتسام وحسين عمانيان، فإن هناك جدارا يفرق بينهما، لكن الفتاة لم تستلم لمشيئة والدتها، بل جاهرتها بالمعارضة، مع أنها أيقنت أنها ليست حرة كما ترجو، أنه يلزمها العصيان، أن تثور مثل أخريات كي تبلغ حقاً كان يفترض به أنه حق طبيعي، أي الحق في اختيار العيش مع من تحب. حالة ابتسام نجد على النقيض منها حالة شقيقتها نوال التي سوف تتزوج من رجل يكبرها سناً، ويختلف عنها في الجنسية، هذان العاملان لم يقفا عائقاً أمام خيارها، اختلاف الهوية والعمر لا يعدو سوى من التفاصيل الثانوية مقارنة بالاختلاف في المذهب، بل إن نوال سوف تسافر مع زوجها إلى كندا، هنا تتراءى بعض مفارقات الحياة العمانية، حيث أن ما يحدد طبيعة العلاقات بين الأفراد ليس سوى المعتقد، يمكن أن يختلفا في كل شيء ولن يعترض أحد، لكن يجب أن لا يختلفا في تقديسهما للخلفاء الراشدين، وأن تميل كفة عمر بن الخطاب على كفة علي بن أبي طالب، هذا الواقع لا يخص سلطنة عمان وحدها، لا يزال الجدال التاريخي يخيم على الروابط الثنائية بين العرب إجمالاً. أما البنت الثالثة فهي وفاء التي لم تكن محظوظة مع من تحب، بحكم انتمائه إلى قبيلة أخرى، هنا أيضاً لن نخرج مرة أخرى من عنق التمييز القبلي، حيث أن الإنسان لم يتحرر من شرط الانتماء إلى عشيرة، في مجتمع ينحو إلى ابتكار تراتبية بين البشر، بينما البنت الرابعة إيمان فيبدو أنها الخاصرة الرخوة في الحكاية، فقد سارت على منوال أمها، خاضعة إزاء ما تأمرها به، تزوجت ممن اختارته لها.
في هذه البانوراما التي تعرضها عزيزة الطائي، في «أصابع مريم»، عن أربع نسوة، اللواتي يشكلن أصابع الأم مريم مع إصبع خامس ضاع منها وكان زوجها، في خلافاتهن اليومية، في صداماتهن، تبرز معالم ثورة النساء ورغبتهن الصامتة في التحرر، الذي يبدو أنه مسألة فردية لا جماعية، لا تجد فيها المرأة داعما سوى صبرها وقدرتها على التحمل.

عن صحيفة القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم