هيثم حسين

رواية الأميركي جون غريشام تحكي عن عالم الفساد في مكاتب المحامين وكليات الحقوق.

تخفي عوالم المال والبنوك والاستثمار ومكاتب المحاماة وحتى الجامعات في أميركا الكثير من الحكايات، التي تخفي صفقات وعلاقات مشبوهة ومالا فاسدا يتدفق على بعضهم ويفتح لهم حياة البذخ، ويُهلك آخرين مرتهنين إلى البنوك ومؤسسات المال التي لا تعرف شفقة. إنها عوالم مليئة بالقصص المثيرة وقد تناولتها السينما الأميركية مرات عديدة، ولكن يبقى للتناول الأدبي الروائي نكهة خاصة وبصمة بارزة في معالجة هذه القضايا بجرأة، كما هو الحال في رواية الأميركي جون غريشام “سرقة مال النصاب”.

يقتحم الروائي الأميركي جون غريشام “سرقة مال النصاب” عالم الفساد في مكاتب المحامين والنخبة المالية في الولايات المتحدة، ويفضح أساليبهم البعيدة عن القانون والأخلاقيات بطريقة روائية مميزة وحبكة متقنة.

يرجح غريشام وهو محامي وسياسي وناشط اشتهر برواياته القانونية المثيرة التي ترجمت إلى أكثر من 42 لغة، فرضية السرقة من النصابين واللصوص الكبار، ومعاقبتهم بأخذ مالهم الذين يكيدون الدسائس ويحيكون المؤامرات من أجل مراكمته وتضخيمه بشتى السبل.

يتناول غريشام في روايته، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت بترجمة غيلدا عساف، فكرة سلب أحد النصابين الكبار جزءاً من ثروته من قبل بعض الشباب الذين يشقون طريقهم في الحياة، ويحاولون بعدها الاستمتاع بما يحصلونه منه، وكأنهم صعاليك معاصرون يسرقون الأثرياء الذين لا هم لهم سوى مضاعفة ثرواتهم.

فروض وقروض

الفساد الذي ينخر أميركا (لوحة للفنانة هناء مال الله)
الفساد الذي ينخر أميركا (لوحة للفنانة هناء مال الله)

يلفت غريشام من خلال راويه إلى أن هناك وفرة في عدد الأكاديميين القانونيين الذين يبحثون عن عمل، لذا يصطفون وهم يتوسلون من أجل نيل وظيفة، لأنهم يحبون أن يكونوا برفقة الطلاب، وتفضل الكلية أن تتباهى بعدد الطلبة القليل بالنسبة إلى عدد المعلمين، وكأن الجميع يتلقى التعليم من قبل محترفين موهوبين، في قاعات دراسية صغيرة ومريحة، في حين أن الواقع يناقض ذلك.

عدد من الشباب الذين يصدمهم الواقع بدروس قاسية، يختارون دراسة الحقوق، ويكون لكل واحد منهم دافعه القوي لتحقيق حلمه الذي يبدو بعيد المنال، ذلك أن ظروفهم تعاندهم وتلقي بهم في دروب الحاجة والسؤال، وتفرض عليهم خيارات صعبة، تحتاج منهم إلى قوة وجهد ومثابرة لتحقيق ما يصبون إليه.

مارك، تود، زولا، نماذج للطلبة المتجهين إلى عالم القانون والأعمال والمال، مدفوعين برغبتهم لإحقاق الحق من جهة، ومن جهة أخرى لتحقيق ذواتهم، وجني أرباح من مهنتهم والحظوة بعيش هانئ، بعيداً عن قسوة الفقر ومشقاته، ومن جهة أخرى من أجل تحقيق نوع من القوة والنفوذ لتجاوز العقبات التي تنغص عليهم حياتهم.

يحاول الأصدقاء الحصول على قروض دراسية من بعض شركات المحاماة، بحيث تغدو تلك القروض بمثابة قيود تفرض عليهم خياراتهم الحياتية لاحقاً، ويكون هناك جوردي الخبير بعالم الفساد والأعمال، يقوم بتعريفهم إلى خفايا ذلك العالم الذي يبدو براقاً لمن ينظر إليه من الخارج، لكنه يظهر كمستنقع حقيقي لمن يغوص فيه ويكتشف أسراره الدفينة التي تعكس حقيقة كثيرين من الدائرين في فلكه.

يتحدثون عن شركة محاماة لا تعد من الشركات الكبرى المشهورة، لكنها تعمل بالخدمات المالية، وتتحكم بكثير من الرهون العقارية، وحالات استرداد الملكية، وحالات العجز عن التسديد، وحالات الإفلاس، أي جميع الأشياء المتعلقة بالديون الفاشلة تقريباً، ومن بينها قروض الطلاب. وينتاب الأصدقاء الأربعة شعور من التعجب والاستغراب، وما إن كان هنالك مَن قد يقرضهم أربعتهم قرابة مليون دولار ليكملوا دراستهم، حيث يبدو لهم الأمر غير منطقي، كما أنه يبدو مثيراً للضحك كذلك، فيعترفون لبعضهم بعضاً أنهم تم الكذب عليهم وتضليلهم وخداعهم بالكلية البائسة التي تورطوا بها.

يكشف الروائي عبر أبطاله جوانب من الفساد الأكاديمي في الولايات المتحدة، وكيف يتم إعداد خطط اقتصادية ربحية لكليات الحقوق، ويصرح جوردي عن واقع أن بعض العمليات الحسابية الخاصة بكليات الحقوق، يكشف ما يقودها في لعبة السوق والدعاية، وتحويل الكليات إلى ما يشبه دكاكين تجارية مفتوحة وموقوفة لمن يستثمر فيها.

يحدد كلية فوغي بوتوم التي تكون أقل مستوى من كليات الحقوق الشهيرة كهارفارد وغيرها، وكيف أن العميد فيها يجني مبلغاً خيالياً أكبر من مبلغ العميد في كلية الحقوق في هارفارد، وأن لدية سيرة ذاتية تبدو جيدة على الورق، يتحدث بشكل جيد أينما ذهب، وأظهر مهارة في مواجهة الابتزاز.

الاحتجاز الأميركي

 يصرح مارك لنفسه ولأصدقائه بعد أن يتسلل إليهم شيء من اليأس، بأنهم سينجون، وشاركه تود شعوره مؤكداً أنهم سيتخطون ذلك، من دون تحديد ما هو ذلك الذي كان يشير إليه، أهو كلية الحقوق، أم القروض، أم البطالة، أم انهيار صديقهم جوردي، حيث كان هنالك العديد من التحديات في تلك اللحظة.

يركز جوردي على شركة تتبدى كعصابة مافيوية أكثر من كونها شركة محاماة تصف نفسها بالمحترمة، حيث مكاتبها فاسدة وظالمة ومخادعة، وتحتكر الكليات، يحاولون فضحها بشتى السبل، يفكرون بالاجتماع بصحافي ما يغطي قضايا حقوقية في بعض الصحف، ويفكر برفع دعوى قضائية ضد مديرها الذي يستغل الكليات والطلاب ويحتكر مستقبلهم ومستقبل مهنتهم.

تصف زولا حالة جوردي بالمستعصية، تقول إن من الغريب أن يصل المرضى المصابون بثنائية القطب إلى الحد الذي يجعلهم يظنون أنهم ليسوا بحاجة إلى الأدوية بعد الآن، وأنهم يقنعون أنفسهم أنهم قادرون على العيش بسلام من دونها، لذلك يتوقفون عن تناولها، وعندها تبدأ الأمور بالتدهور، وغالباً ما يلجأون إلى العلاج الذاتي، وأن هذا ما حدث لجوردي الذي يعاني من حالة مرضية جراء الضغوط المترتبة عليه من أمور الكلية، وعدم إيجاده لعمل وقرضه، وزواجه الذي بدا مفروضاً عليه.

يكون الانتظار موجعاً للأصدقاء الذين يعيشون مأساة فقد صديق زولا، ولا تتوقف أعمال البحث عن الجثة، وكان زملاؤهم في الكلية يتصلون بهم لمعرفة آخر المستجدات، وضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالشائعات، وتكتمت صحف محلية عن الخبر.

قصة سلب أحد النصابين الكبار جزءاً من ثروته من قبل بعض الشباب الذين يشقون طريقهم في الحياة

ويكون عليهم التركيز على دراستهم في الكلية، لا من أجل الدراسة، بل لأنهم ملزمون بالقروض، ولأن مَن يصفونهم بجباة القروض المتوحشين سيقومون بالتهامهم إن لم يكونوا بالكلية، وسيكون عليهم البدء بتسديد القروض المترتبة عليهم.

كما تكون مشكلة زولا ذات الأصول الأفريقية، كامنة في احتجاز والدها في مركز لاحتجاز المهاجرين، هي التي تحمل الجنسية الأميركية بحكم ولادتها هناك، في حين أن والديها ما يزالان يعاملان كمهاجرين غير شرعيين.

ومن خلال هذه الزاوية يشير غريشام إلى أن هناك العشرات من مراكز الاحتجاز والاعتقال في البلد، وكل يوم توقف دائرة الهجرة قرابة خمسة وثلاثين ألف شخص، وأوقفت دائرة الهجرة قرابة أربعمئة ألف عامل غير مسجل، وقامت بترحيل ما يقارب العدد نفسه بكلفة تتجاوز عشرين ألف دولار لكل شخص مرحل.

ويشير غريشام إلى أن نظام الاحتجاز يكلف الخزينة نحو ملياري دولا سنوياً، وهو أضخم نظام احتجاز للمهاجرين في العالم. وينوه إلى أن الفيدراليين عقدوا اتفاقات مع المئات من سجون المقاطعات، ومراكز احتجاز الأحداث، وسجون الولايات لإيواء معتقليها، بالإضافة إلى العشرات من مراكز الاحتجاز، بكلفة تقارب مئة وخمسين دولارا يومياً لكل معتقل، وثلاثمئة وخمسين دولاراً لكل عائلة. وتشغل ثلثي هذه المراكز شركات خاصة. وبالنسبة إليهم المزيد من المعتقلين يعني المزيد من المال.

كما يذكر أن الأمن الداخلي والذي تتبعه دائرة الهجرة والجوازات له حصة صدرت بالتكليف من الكونغرس، ولا توجد وكالة تطبيق قانون، أو وكالة أمنية، أخرى تعمل على نظام تحديد الحصص.

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم