عدنية شبلي تروي اغتصاب فلسطين المستمرّ في تفصيل ثانوي
منال عبد الأحد
"تفصيل ثانوي" عنوان رواية الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي الصادرة عن "دار الآداب"، وتفصيل ثانوي هو ما حدا بفتاة في الخامسة والعشرين من العمر إلى البحث عن حيثيات جريمة، كونها حصلت في يوم مولدها نفسه قبل ما يزيد على خمسة عقود من الزمن، مع فتاة من النقب تعرّضت لاغتصاب جماعي من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي. في عيدها الخامس والعشرين تقرر استطلاع وقائع ما جرى في ذلك اليوم من العام 1949.
صحراء النقب في ذلك العام هي مسرح الجريمة، فالفتاة التي عثر جنود الاحتلال عليها ملقاة في العراء بجوار أكمة وهي في حالة صعبة كانت الغنيمة التي فازوا بها خلال بحثهم عن فارين عرب. جاؤوا بها إلى المعسكر حيث وضعوها في سقيفة يقبعون فيها وخرجوا يتشاورون حول مصيرها، فما كان منهم إلا، وبأمرة من القائد، أن جردوها من ثيابها الرثة ونقعوا رأسها بالنفط وقصوا شعرها الذي يعجّ فيه القمل وأداروا عليها خرطوم المياه في حين كانوا قد اتفقوا مسبقًا على أن يتناوبوا على اغتصابها الواحد تلوَ الآخر.
تتحدث الكاتبة بغموض يلفّه الحياء عن حادثة الاغتصاب تلك، مبتعدة عن الإثارة، لتصل بنا إلى قرار التخلص من الفتاة بسبب رائحتها النتنة، وهكذا كان، فقُتِلَت وطُمِرَت في رمال الصحراء كأيّ جيفة.
وفي حين يأتي الجزء الأول على لسان الراوي، يتم سرد الجزء الثاني بصيغة المتكلم بحيث تتحدث الفتاة، بعد أن قرأت صدفة خبرًا في صحيفة عن الحادثة، التي جرت منذ ما يتجاوز الخمسة عقود من الزمن، عن حيثيات رحلتها وما انتظرها من مشقات وعن محاولتها اقتفاء مجريات ما حدث، إذ تابعت ذلك كله بتفاصيله، حتى الثانوية منها، فروت بإسهاب لحظة بلحظة انتقالها بواسطة سيارة بنمرة صفراء استأجرتها وبطاقة صديقتها الزرقاء التي خولتها الدخول إلى المكان من دون أن يكون لذلك تبعات تذكر، بحيث أن الجنود الإسرائيليين ينظرون بإزدراء إلى الفلسطينيين المارين عبر الحاجز ولا يحدّقون حتّى في وجوههم فـ"كلنا نشبه بعضنا البعض من وجهة نظر الجنود"، وكأنهم هم فعلًا شعب الله المختار.
في الجزء الأول من الرواية يطالعنا السرد المسهب أحيانًا الذي تتبعه الكاتبة من خلال ذكر تفاصيل ثانوية تجعلك تتحسس استرسالها في تشريح الوقائع، على رغم صغر حجم الرواية التي تأتي في 127 صفحة. وقد جعلها ذلك تغالي في تقييم أمر وتقلل من شأن أمر آخر أحيانًا، ففي سياق حديثها عن الضابط الإسرائيلي الذي كان مسؤولًا عن الموقع وبأمرته فصيلة من الجنود جاؤوا إلى صحراء النقب بمهمة استكشافية لاستقفاء أثر المتسللين العرب بالإضافة إلى ترسيم الحدود الجنوبية مع مصر وتمشيط القسم الجنوبي الغربي من النقب وإخلائه كليًا من العرب بعد انتهاء المعارك، تسهب الكاتبة في هذا الإطار في وصف طريقة تنظيف الضابط الإسرائيلي، الذي تعرض للدغة ثعبان، جسده كل يوم بلغة شبه سينمائية حتى تصل بنا إلى التحدث أكثر من مرة عن طريقة غسله للمنشفة الصغيرة التي يستعملها وكيفية تعليقها بمسمار في الحائط لتجف، فيما تكتفي بمقاربة موجزة لحادثة الاغتصاب التي هي واقعة أساسية ترتكز إليها الرواية. أما الجزء الثاني فيأتي أشبه بمشهدية لحظوية لتحرّكات الفتاة مع تأريخ لوقائع المدن المحتلة والتي أزيلت تمامًا عن الخريطة لتحل مكانها المستوطنات الإسرائيلية. ففي الخرائط التي بحوزتها تتشابك أسماء المدن الفلسطينية التي مُسِح معظمها من الوجود مع أسماء المستوطنات الحالية المقامة على أنقاض تلك المدن، فمن اغتصب الأرض وشوه معالمها هو نفسه من اغتصب الفتاة.
وكفيلم وثائقي هو الجزء الثاني من الرواية حيث تجول بنا الفتاة التي تحمل بطاقة هوية صديقتها الزرقاء في الأراضي المحتلة موثقة ظروف الاحتلال، متنقّلة بين المتاحف والأرشيفات التي تتناول تلك الحقبة من الزمن، فلقد تمّ تقطيع أوصال فلسطين بغية افتعال شرخ في النسيج الاجتماعي الفلسطيني فبات مثلًا يستحيل على أهل المنطقة "أ" حاملي البطاقة الخضراء من الذهاب إلى المنطقة "ج" في القدس، وهذا ما اضطر الفتاة إلى استعمال هوية صديقتها. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الكاتبة أفرطت في التطرق إلى تفاصيل وأسماء المناطق الفلسطينية التي تمّ احتلالها على حساب الحبكة الدرامية للرواية فبات الجزء الثاني توثيقيًا محضًا.
*نشرتها جريدة "الحياة" اللندنية بتاريخ 11 أيلول / سبتمبر 2017.
0 تعليقات