حكايات ترويها ابنة عائلة معارضة.. تهامة الجندي وسوريا في سيرة واحدة
منال عبد الأحد
تكتب تهامة الجندي في "صورنا الماكرة" (دار الريس) سيرة شخصية تتسم بتصالح لافت مع الذات، فلا تسعى إلى تلميع صورة ما ولا إلى الظهور في دور الضحية. فالأجزاء المتداخلة في الرواية، وإن تجعل القارئ يتوه أحيانًا بين طياتها، إلا أنها تنقل لنا الواقع كما هو. ونتحسّس هذه الشفافية المفرطة في مراحل كثيرة تبدو فيها الجندي في موقع المنتقد نفسه دون أن تحاول إلصاق صفة البطولة بشخصها.
تتحدر الجندي من عائلة معارضة، فوالدها، خالد الجندي، الذي كان يشغل منصب رئيس اتحاد نقابات العمال، ما لبث أن أدخل السجن بعد هزيمة عام 1967 عقب استقالته من منصبه ومن حزب البعث ومطالبته بالتحقيق في ما جرى. في ذاك الوقت كانت الجندي طفلة صغيرة لم تفقه من كل ما حدث سوى التحوّل الجذري في نمط حياتها، فتقول: "لكني بدأت أعي جيدًا أني فقدت امتيازات أبناء السلطة على ضآلتها ذاك الحين، ولازمتني لعنة أولاد المعارضين" (ص 15). ومن ثم أطلق سراح والدها في إطار الحركة التصحيحية التي قادها حافظ الأسد وأودِع رفاقه السابقون السجن.
في تلك الآونة، وفي خضمّ انتشار "حملات التأديب" التي أطلقها الأسد الأب، ابتسم الحظ لتهامة وحصلت على منحة لمتابعة دراستها في صوفيا في بلغاريا، حيث أطلقت العنان لأنوثتها المكبوتة وعاشت قصة حبها الأولى مع شاب بلغاري تعرفت عليه من خلال صديقتها في السكن، إلا أنها افترقت عنه بسبب عزلتها الداخلية التي أملتها عليها ظروف نشأتها الصعبة. "دخلت عزلتي وبكيت قسوتي، كان جسدي معطوبًا تمامًا (...) وكان عليَّ أن أنتظر عامين قبل أن نتصالح، وأعرف ما أريد" (ص 26).
وبعد أن خيبت نظرتها المثالية إلى الشيوعية آمالها، وجدت نفسها في صفوف ثوار فلسطين مناضلة على طريقة جورج حبش الذي قال: "تحرير التراب الفلسطيني يبدأ بتحرير دول الطوق من التبعية والطغاة" (ص 27). وهنا حددت تهامة وجهة بوصلتها تمامًا كما فعل والدها، المعارض لسياسة الأسد الأب، فبات من مناصري "أبي عمار"، وتعرّفت هي إلى "الختيار"، كما يطيب لها أن تسميه، خلال زيارة إلى أبيها حين كان في تونس، فغمرها بكرمه، صرف لها منحة دراسية وخصّها بتذاكر السفر من الدرجة الأولى أينما كان يحلو لها الذهاب.
وعام 1982، أغرمت بشاب فلسطيني من سكان الأردن بعد أن التقيا في حفل مشترك للطلاب السوريين والفلسطينيين وجمعهما مجددًا قطار العودة إلى صوفيا. وانتهت هذه العلاقة بالزواج الذي عانت منه الأمرين بسبب منعها من دخول الأردن، بدايةً، نظرًا لنشاطها في منظمة التحرير الفلسطينية. وحتى عندما نجحت في الدخول إلى الأردن، خرجت منها مجدّدًا بسبب رفض والد زوجها لها، هو الذي كان يعيلهما، فما كان من الزوج إلا أن شجعها على العودة إلى بلغاريا والقبول بمنحة الدكتوراه التي تركتها لأجله. وبعد فترة كان الطلاق مصير هذه العلاقة الزوجية.
أما الوالد فبذل قصارى جهده لإسقاط النظام السوري وقد كلّفه ذلك الكثير فاتّهم بقتل عشيقته المنتحرة وسجن. وبعد خروجه من الأسر، كما قبله، راح يتنقل من بلد إلى آخر إلى أن انتهى به الأمر في غزة مع ياسر عرفات بعد أن حصل على تصريح دخول من السلطات الإسرائيلية، وحمل الجنسية الفلسطينية واستطاع أن يحقق حلمه برؤية فلسطين. وهنا تتركنا الجندي أمام إشكالية واضحة: هل تتعاطف مع أبيها الذي عشق فلسطين حدّ الثمالة، أم تتحفّظ على دخوله إيّاها بإذن إسرائيلي؟! ما يطرح ألف علامة استفهام حول موقف تهامة الجندي من التطبيع ومفهومها للصراع العربي الإسرائيلي. "حين التقينا آخر مرة في القاهرة، كان يرغب في أن يريني وطنه الجديد، لكنّ ذِكْرَ أبي عمار في وطن الممانعة كان خيانة، فكيف تكون زيارة بلد يحكمه؟ لم أجرؤ على تلبية دعوة أبي وطلبه الأخير" (ص 73).
عانت الجندي لكونها ابنة الرجل المعارض للنظام وتعذّر عليها أن تجد عملًا في وطنها الذي حسمت أمرها بالعودة إليه بناءً على طلب اختها السجينة السابقة. فما كان عليها إلّا أن اختارت العمل خارج المؤسسات، وتربص بها أزلام النظام أينما حلّت. وفي أواسط عام 1997 تفرّغت للعمل مع الكفاح العربي إلى أن اندلعت الثورة السورية ووقف آل الحسيني في صفّ الرئيس، فما كان منها إلا أن استقالت دون أن تحصل على تعويض 14 عامًا من العمل.
نظرًا لظروفها المادية المزرية، حاول صديقها مساعدتها في إيجاد عمل بغية استغلالها فيما بعد لمصلحة النظام، وعلى رغم أنها صدقته في البداية، اكتشفت مآربه ولم تستسلم لها. وهنا تتوقف الجندي عند مرحلة كانت فيها من أوائل الصحافيين السوريين الذين ارتبطوا بالشبكة العنكبوتية بحيث كانت تعمل كمراسلة لمنابر عربية عدة.
تحدثك الجندي عن أحلامها البسيطة، فهي امتلكت أول منزل لها في الأربعين من عمرها، ثم انتقلت إلى منزلها الجديد في قدسيا. ومع تفاقم الأحداث في سوريا غادرته هاربة إلى لبنان، حيث ستستفيض الجندي في الحديث عن النشاطات الثقافية التي غطتها وعلاقتها بهذا الوسط وببيروت التي أحبت.
بالكاد يستطيع قارئ الجندي أن يلتقط أنفاسه فيما يواكب سرعة تنقلها بين الأحداث من دون مراعاة التسلسل الزمني في ذلك أحيانًا، مما ينهكه ويشعره بالتشتت بين ثنايا هذه الحكايات المتداخلة التي من المفترض أن تشكل سيرة ذاتية واضحة المعالم. وتتوجه الجندي في "صورنا الماكرة" إلى القارئ العارف بواقع الحال غالبًا، بحيث لا تتوقف عند محطات تاريخية مهمة ومفصلية بل تمرّ عليها مرور المدرك خبايا الأمور من دون أن تأخذ في الاعتبار القارئ غير المطلع على حيثيات تلك المرحلة.
تستحضر تهامة الأحداث في سوريا، فتروي قصة أسيرة محررة تعرّفت عليها في لبنان، وتتوقف عند يومياتها حيث تذكر حادثة توزيع فوطة صحية واحدة على خمسة وعشرين سجينة ينزفن من الرعب بإسهاب موجع يحاكي أسلوبها في وصف هربها من قدسيا وكيف استحضرت وهي جالسة على الأرض، بانتظار فرصة سانحة كي تخرج من منزلها، كل صور الاغتصاب والتعذيب، فكانت ترتعد من الخوف لمجرد التفكير بأنها قد تقع في أيدي هؤلاء المجرمين المتوحشين. وراحت تبكي الأمهات الثكالى حتى ذهب بها الأمر إلى حدّ شكر الله على أنها لم تنجب (ص 109).
وإثر الأحداث الدامية في بيروت، والظروف المادية الصعبة، تقرر تهامة العودة أدراجها إلى صوفيا حيث تنجح في العمل بالقسم العربي للإذاعة البلغارية. وهناك تتعرف على شباب سوريين هاربين بشكل غير شرعي إلى بلغاريا وتوثق معاناتهم.
يلفت قارئ "صورنا الماكرة" الجزء الذي تتحدث فيه تهامة عن دخولها الشبكة العنكبوتية وتعرفها على موقع "فايسبوك" حيث راحت تطلع على أخبار الثورة من خلاله وامتلأت صفحتها بصور الشهداء من الأصدقاء. إن قسمًا كبيرًا من هذا النص كان قد نُشِر في ملحق "نوافذ" من جريدة المستقبل البيروتية، دون أن تتم الإشارة إلى أنه سيشكل جزءًا من إصدار مستقبلي، وذلك عام 2014. وأمام هذه الواقعة يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال بديهي، ألا وهو: هل كتبت تهامة سيرتها الذاتية في شذرات ثم جمعتها وهذا ما يبرر التخلخل الحاصل أحيانًا في بنية السيرة الذاتية هذه، بحيث تتنقل بنا من واقعة إلى أخرى من دون صلة وصل منطقية بين الأحداث؟!
* نشرتها جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017.
0 تعليقات