هيثم حسين

في أغلب مجتمعات العالم الثالث، نجد شعوبا غارقة في تقاليد متكلسة، وأخرى تحاصر أفرادها وتكبتهم. تطلب المجموعة من الفرد أن يحقق ما تراه هي صلاحا، وإن حاد عن أفكارها حاصرته وآذته إلى حد الإلغاء. ومن ناحية أخرى يواجه كل نفس تحرري سواء عند المرأة أو الرجل صخرة المجتمع الصلبة، التي في الغالب تتهشم عليها الأفكار التحررية والتنويرية، وقد تنقلب تماما إلى ضدّها، مثلما تبيّنه الروائية النيجيرية أيوبامي أديبايو.

تسعى النيجيرية أيوبامي أديبايو في روايتها “ابقي معي” إلى استكشاف توقعات الناس من بعضهم بعضا، وكيف يتخيل كل شخص من الآخر أن يكون كما يتصوره، أو يتوقع منه، في حال لم يكن بالصيغة التي يريده عليها، أو لم يطابق تصوره عنه، فإن الاختلاف يكون صادما، وقد يدفع بالبعض إلى الخروج بنتائج تفتقر إلى الدقة والواقعية، وبعيدة عن فهم الطبيعة البشرية التي تتبدى في بعض المواقف متقلبة، تستجيب للأفعال والأفكار بردود أفعال مختلفة.

تفكك أديبايو في روايتها، الصادرة في نسختها العربية عن دار المنى، بترجمة سكينة إبراهيم، آليات تفكير شريحة من المجتمع النيجيري، من خلال التعمق في تصوير حالة زواج ضمن أقلية اجتماعية متشبثة بتقاليدها، ويكون بطلاها الزوجان ييجيد وأكين مناضلين اجتماعيين يحاولان التخلص من العادات والأفكار التي تحاصرهما في حياتهما الزوجية، ويسعيان إلى أن يرسما مسارات مختلفة لحياتهما، ولا يخلو الأمر من كثير من المشقات التي تعترض طريقهما.

اكتشاف البشر

المرأة محاصرة بالتقاليد البالية
المرأة محاصرة بالتقاليد البالية

تحدد أديبايو مدينة جوس النيجيرية كمكان لانطلاق الأحداث، وتحدد سنة 2008 كزمان تستهل به رحلتها الروائية بين أزمنة متداخلة، حيث الماضي يسود ويقود حاضر البطلة، ويمضي بها إلى دروب الأمكنة التي ارتحلت عنها، لتستعيد أجزاء ومحطات من حياتها السابقة بين طياتها، وتعيد اكتشاف الوجوه والبشر فيها بعد اختلاف الأحوال.

أكين هو زوج ييجيد، كان منحدرا من أسرة متنفذة ومتنورا، يعارض الأفكار التقليدية عن تعدد الزوجات، وزوجته ييجيد متناغمة معه في أفكاره التقدمية، وتواصل تطوير عملها في صالون التجميل الذي تمتلكه، ويشكلان معا ثنائيا لافتا، لكن العوائق التي تظهر في سبيلهما لاحقا ترغمهما على النظر إلى الأمور بواقعية قاسية، وأن يتخذا مواقف قد لا تتوافق مع مواقف سابقة لهما.

تصرح ييجيد لنفسها بأن عليها أن تغادر المدينة وتذهب إلى أكين، حزمت حقائبها وتخلت عن أغلب ممتلكاتها، وهي التي أرادت أن تحلّ حياتها الجديدة محلّها قبل أن تلتقيه ثانية بعد فراقهما. وتقول إن السبب ليس أنها غدت متشبثة بالمكان الجديد، فهي لن تفتقد الأصدقاء القلائل الذين اتخذتهم، أولئك الذين لا يعرفون المرأة التي كانتها سابقا.

أديبايو تفكك في روايتها آليات تفكير شريحة من المجتمع النيجيري، من خلال التعمق في تصوير حالة زواج ضمن أقلية اجتماعية متشبثة بتقاليدها

تقول إنها بمجرد أن ترحل ستنسى الرجل الذي طلب منها أن تصبح زوجته، ذلك أن لا أحد كان يعلم أنها زوجة رجل بعيد اسمه أكين، وهي لا تخبرهم إلا طرفا من القصة، تختصرها بقولها إنها كانت عاقرا، واتخذ زوجها زوجة أخرى له. وتنوه بأن أحدا لم يحاول تقصي القصة أبعد من ذلك، وهي لم تحدثهم عن أية تفاصيل أخرى.

تنتقل إلى تصوير العنف الاجتماعي المصاحب للتخلف، والذي يكون أشرس وجوه التخلف وأكثرها إيذاء لبناء المجتمع، حيث الاحتراب الأهلي يبلغ أوجه، ويلقى شباب حتفهم لأسباب بسيطة، وكأن العنف يصبح قدرا للناس هناك، أو كأن القتل يكون انتقاما لهم من أنفسهم ومن واقعهم، وسبيلا لتشويه أمكنتهم بذريعة المحافظة عليها.

تقرر إغلاق صالونها ومتجر المجوهرات اللذين تملكهما، تفكر في الضحايا، يجافيها النوم، تعود إليها مقاطع من حياتها التي هجرتها، ترى أكياس المخدات بتصاميمها المطبوعة في غرفة نومها السابقة، ترى جيرانها، ترى عائلة زوجها التي اعتبرتها عائلتها لفترة، مضللة عائلتها أيضا، وترى أكين بحالته السابقة حين كانا معا.

تفكر في الحقائب التي حزمتها، والتي تتمعن فيها، وحين تخطر لها فكرة أن بيتها قد يحترق وتتساءل أية حقيبة منها ستختار لتنقذها من الحريق، تقول إنها لن تحمل أيا منها في البداية، ثم تقول إنها ستختار حقيبة فيها أشياء بسيطة لقضاء الليلة التي خططت لتقضيها هناك حين تحضر جنازة والد أكين، وستحمل معها كيسا جلديا فيه مجوهرات الذهب. تصرح لنفسها بأنّ الأشياء المهمّة كامنة في داخلها، ومغلق عليها في صدرها كما يُغلق القبر على ما فيه، مكان أبدي، صندوق كنوزها الشبيه بالتابوت.

تكتب أديبايو عن حالة المجتمع الذي يتوقع أفراده من بعضهم بعضا أن يقوموا بالأفعال التي يختارونها لهم، وكأن القيود الاجتماعية هي التي ينبغي أن تقودهم، تلك الأفكار التي تتحول إلى قيود بالتراكم، ومن شأنها أن ترسم أنماطا مستنسخة عن بعضها، بحيث تلغي الاختلاف وتقولب الجميع بقوالب بائسة، فلا يكون تمايز، أو تجديد أو تمرد أو تغيير.

كفاح متجدد

أيوبامي أديبايو تعالج مفارقات من تفكك البلاد بالموازاة مع التفكك الأسري وتبدل العلاقات الإنسانية بطريقة وحشية

تنتقل الروائية إلى تصوير واقع الرفض الذي يمكن أن يقابل به الشخص الرافض للأفكار الجاهزة المعلبة، وخروجه عن الأنماط السائدة، ومحاولة اختطاطه خطه المستقل، وكيف يقابل ذلك بنوع من الاستهجان، وحتى الإدانة التي تتسع دوائرها رويدا رويدا، بحيث يجبر على الإذعان للأحكام والأفكار ويبقي نفسه مرتهنا لها ومقيدا بها.

تكون بطلة الرواية ييجيد مثال المرأة المكافحة على أكثر من جبهة، فهي تعمل وتحاول تطوير قدراتها وكفاءاتها، وتكون على الجبهة الأخرى متوائمة مع زوجها وشريكته في التغيير والتنوير، وتكون مقبلة على الحياة، باحثة لنفسها عن موقع واعتبار، لكن حالتها بعد الزواج، وعدم تمكنها من الإنجاب، ألصق بها صورا مختلفة، فرض عليها قيودا مزعجة آذتها في الصميم.

الأمومة بالنسبة إلى ييجيد لغز لا تكاد تجد له حلا يريحها، فهي التي توفيت أمها التي كانت تنتمي إلى جماعة مختلفة باكرا، وحمّلتها أعباء الاستمرار وحيدة في حياة شاقة، تجهل أهل أمها، وهي في الوقت نفسه تفشل في أن تصبح أمّا، أي تكون علاقتها معقدة بين كونها ابنة لأم راحلة مجهولة الأهل بالنسبة إليها، وزوجة غير قادرة على تخطي محنة الإنجاب، كي تصبح أمّا وتعيش مشاعر الأمومة بكل ما فيها من تدفق وعطاء.

تلفت أديبايو إلى تغير الناس بين موقف وآخر، وكيف أنهم يبدأون بمحاصرة مَن كانوا ينظرون إليهم بطريقة مختلفة قبل وقت قريب، ويتم الحكم على الشخص من خلال قدرته على القيام بما يتوقع منه، فمثلا يتوقع الأهل من ييجيد أن تنجب، وحين لا تتمكن من ذلك، لا يكون تفهم الحالة أمرا يسيرا، ويحضر خلط بين القدرة والإرادة، وكأنها قادرة ولا تريد فعل ذلك.

تتناول كذلك جوانب من التخلف الاجتماعي السائد، وبخاصة بين أبناء الطبقات الوسطى الذين يعتقدون أنهم تجاوزوا مرحلة التخلف والجهل وأصبحوا متنورين بمجرد أنهم دخلوا المعاهد والجامعات، أو أصبح لديهم قسط محدد من المال، لكن هيمنة الأعراف البائدة عليهم تكشف الزيف الذي يحاولون إقناع أنفسهم بصدقيته وواقعيته واستمراريته وكأنه قانون حياتي.

تعالج أديبايو مفارقات من تفكك البلاد بالموازاة مع التفكك الأسري، والعائلي بمعناه الأوسع، وتبدّل العلاقات الإنسانية بطريقة وحشية، والخوف الذي ينتشر في الأجواء ويلوثها بقتامة بائسة، ثم اليأس الذي قد يصل في النهاية بالشخصيات الراغبة في غد مشرق وأفضل، إلى تحطيم آمالها المستقبلية.

عن العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم